لفت نظري موضوع هذه المقالة عندما استدعت إحدى شركات الاتصالات أحد النشطاء على ما يسمى "وسائل التواصل الاجتماعي"؛ ليعمل فيها بغرض تعزيز المحتوى العربي.
ولا يخفى على أحد أن الموضوع دعائي بحت وليس بغرض تعزيز أي شيء سوى مبيعات تلك الشركة، وذلك من خلال معجبي هذا الناشط المقدام الذي لا يخاف في (لوحة المفاتيح) لومة لائم.
"المحتوى العربي"، هذا للأسف ما انتهينا به للغتنا في عصر تفجر المعلوماتية. هذه المساحة الواسعة من (الرَّغْي). واضح بشكل جلي النفاق على كل المستويات لأسباب كثيرة ليس منها بالضرورة أسباب أدبية.
كلمات كثيرة ولا شيء مفيد (بلاغة وبديع ونقد بدائي) لكسر الروتين وإعطاء انسيابية روتينية في النص. تركيبات لا تكاد تتعدى الألسن إلى الآذان.
كان الشعراء في الماضي يقدمون بين يدي مطالبهم قصائد عصماء ونحن عَوْداً على ذي بدء نقدم بين يدي المشاريع بمختلف ألوانها نصوصاً للاستجداء.
لو عبأنا الصفحات من أحاديث البنات للبنات هل يعدل ذلك قصيدة هايكو واحدة جميلة، بعدد محدود من الكلمات وبثلاثة من المقاطع. هذه الآداب لتمضية الوقت وللمنظرة الأدبية وليس لاستجداء الأرباح.
الأجانب في بلادنا يسبرون أسرار الأهرامات ونحن نقيس فساتين الفنانات. اهتماماتنا بيولوجية بدائية (هذا للذين تركت لهم الحروب والاضطرابات وقتاً). لم تعد اللغة بياناً وتبييناً بل كلمات لا يُدرى من أين هي. إنها مجال للهروب من الواقع المؤلم ولفلسفته. لو جلسنا وقتنا نصارع استجداءً للوقوف على ماهية هذا الواقع لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً؛ لأننا وببساطة نحرث في بحر.
كيف تسير أمورنا بهذا المحتوى العجيب؟ لا أحد يهتم، كيف نصنف هذا الواقع؟ لا أحد معنيّ. نحن نسير إلى هاوية، ولكننا لا نريد أن نحيد عن النهاية المحتومة؛ لأننا سلّمنا أنفسنا وما يخصنا للأقدار/ ولولا وجود الكتاب الفرقان كالمرساة بين أيدينا لاضمحللنا اضمحلال حبة الملح في المحيط، لأصبحنا لا شيء.
أين أثر الجامعات والمعاهد والكليات الأكاديمية على المحتوى العربي الذي نراه يومياً؟ لماذا الإصدارات الأكاديمية هي أكاديمية بحتة بلغتها ومصطلحاتها التي في كثير من الأحيان تكون مصطنعة وعصية على الفهم من قِبَل القارئ العادي، الطبيعي.
لا بد أن هناك محاولات متوزعة في المكان والزمان، ولكن تصطدم بما يمكن أن نسميه عدد المتابعين، فيمكن لمحتوى نستطيع أن نسميه بالسخيف أن يكون له عشرات الآلاف من المتابعين، فيأخذ الصدارة على محتوى ثري ومميز ولكن بعدد قليل من المتابعين.
لا توجد ميزة أساسية للتمييز بين النصوص في غياب العقل الناقد الذي نفتقده، عند كل نص يجب أن نقف قليلاً ونُعْمِل ذلك العقل الناقد، ويجب أن نفهم في أحايين كثيرة أن الكتابة ليست غالباً مجالاً للأعمال الخيرية، فلها مقاصد وأهداف وغايات.
الكثيرون ينتظرون من الكتابة مردوداً إما مادياً أو معنوياً، وعندما تتعلم الكتابة من أفذاذها تعلم أن كتابة الشيك البنكي وقائمة الطعام في المطعم يجب أن تخضع لأسس معينة.
قد يكون لمقال أو تحقيق مرفوض من صحيفة ما قيمة كبيرة بذاته إذا نُشر في مكانٍ آخر.
إن بضاعة الأدباء هي أرخص البضائع في بلادنا، لقد وصلنا إلى مرحلة نعجز فيها عن كتابة إشارات الطرق.
من الغريب أن تجد مساحة واسعة من المحتوى تذم شيئاً معيناً، وفي نفس الوقت وعلى نفس المساحات تجد من يمدح ذلك الشيء، لا يوجد شر مطلق ولا خير مطلق.
إذاً لماذا فكرة يوم القيامة بكليتها إذا لم تكن هناك فكرة مرجعية واحدة ومتوحدة ومطلقة للخير والشر؟ إننا نناقض أنفسنا والأسس المرجعية الأولى في فلسفة عقيدتنا. إن الأمثلة ستقودنا في طريق طويلة من الجدل العقيم.
طلبوا من الناس تقديم الفاسدين للعدالة كي تقتص منهم، ولكن بما أن ذلك كله مجرد (محتوى) فقد غلظوا العقوبات على التشهير واغتيال الشخصية، والدليل على التهمة الأخيرة هو ببساطة الدليل الفاشل على التهمة الأولى، وانتهينا بذلك إلى حالة من الهوس بالصمت.
لقد لاحظت بنفسي حالة بعض الرامين الآخرينَ بالفساد وندمهم الشديد، فمن ناحية لا يستطيعون إثبات تُهمهم ومن ناحية لا يستطيعون احتمال العقوبة.
فقد بلغ بأحدهم أن قال: احتمل سجن بضع سنين أما غرامة خمسة عشر ألفاً فذلك كثير، وكان من الشاكرين عندما تنازلت الشخصية الكبيرة عن حقوقها في المحكمة، هذا ما قد يحدث داخلياً في إحدى الدول.
إذا كانت الاتهامات موجّهة بين أشخاص ودول أخرى تكون النتائج مأساوية، فإذا ذكرت دولة ولو بالتلميح المؤكِّد بحيث تُعرف تلك الدولة، فلا تفكر أبداً بالعمل بها أو حتى زيارتها زيارة عابرة؛ لأن (المحتوى) المنشور لا يسمح بذلك، فالسجن والغرامة بانتظارك ولن يرقبوا فيك إلّاً ولا ذمة.
بعض الناس يجدون موازين لكل أنواع النصوص المطلوبة، ولا يجدون أنفسهم سوى في آلات الصراف الآلي، فكل طلب له تقييمه المناسب، ومثال على هؤلاء الفنانون.
وهناك أدباء برغم عظم قيمة بضاعتهم لا يجدون لها سوقاً رائجة، وهم كثر وتتعثر بهم في وسائل التواصل الاجتماعي كما تتعثر بحجارة الأرض في الأرض البور.
نخلص إلى أن المحتوى العربي على وسائل الاتصال لم يغيّر من تراثنا شيئاً، ولم يأتِ بجديد ليثريَ لغتنا، وبمدى هزْلِه لم يغيّر من واقعنا، وبمدى سخفه يمكن أن تنصب له المحاكم، وتفتح له السجون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.