إنها ليست مدينة عادية، إنها البقعة التي تهفو إليها أفئدة مئات الملايين في العالم، التي كانت محوراً للقتال لآلاف السنين، المدينة التي يدفع سكانها الأصليون ثمناً باهظاً لأنهم ولدوا فيها، فأصبحوا مواطنين من الدرجة الثالثة، وليس حتى الدرجة الثانية لأنه يبدو أنه داخل إسرائيل هناك درجتان أولى وثانية، تاركين لأهل المدينة المرتبة الأخيرة.
إنها القدس التي يتأجَّج بها التوتر، الذي لم يختفِ يوماً، من جديد جراء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، ولكن التوتر لا يقتصر على العلاقة بين العرب واليهود فقط، بل إن هناك توتراً آخر أيضاً تلاحظه عين من يزور هذه المدينة.
تقرير لصحيفة نيويورك تايمز رصد يوميات الحياة في هذه المدينة المقدسة، والتوتر الذي يشوب العلاقة بين سكانها، ليس فقط بين العرب واليهود، ولكن أيضاً بين اليهود المتشددين والعلمانيين، الذين يبدو أنهم يعانون بدورهم من ضغوط المتشددين للرحيل عن المدينة، هم أيضاً كالعرب، رغم أنها قد لا تكون مماثلة للويلات التي يعانيها السكان الأصليون.
ميزان السكان المضلل
يعد الصراع الديموغرافي هو أحد أدق القضايا في القدس، ورغم جهود إسرائيل المتواصلة لتهويد المدينة، فإن هناك متغيرات تبطئ مساعيها.
وينقل موقع الغد الأردني عن الكاتب الإسرائيلي نداف شرغاي قوله: لقد مرت خمسون عاماً منذ طلب مؤسس إسرائيل دافيد بن غوريون من وزراء حكومة أشكول أن يُسكنوا بسرعة عشرات آلاف اليهود في مناطق القدس.
وفي اليوبيل الذي انقضى منذ ذلك الوقت نمت القدس ليس فقط في مساحتها، بل أيضاً في عدد سكانها. في كل يوم للقدس يمسك معيلو المدينة وزعماء إسرائيل "المسطرة الديمغرافية" ويفحصون وضع الأغلبية اليهودية، هل هو مستقر، وربما صغير؟
فالاعتبار الديمغرافي والرغبة في الحفاظ على الأغلبية اليهودية في حدود القدس الموحدة، أصبح مع السنين اعتباراً مركزياً في سياسة التنمية والتخطيط للمدينة. ولكن يبدو أن النتيجة محبطة للإسرائيليين.
فوفقاً لمعطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية فإن عدد اليهود في القدس يصل إلى 542 ألفاً (63%)، مقابل 324 ألف فلسطيني (37%). إلا أن الفحص الدقيق للوضع الديموغرافي الذي أجراه اتحاد المياه البلدي الإسرائيلي "جيحون"، مؤخراً، يكشف أن هذه المعطيات لا تشمل عشرات آلاف الفلسطينيين الآخرين، الذين يعيشون داخل حدود المدينة.
وحسب تقييمات الخبراء فإن الغالبية اليهودية في المدينة تقل عن المعطيات الرسمية، وتصل إلى حوالي 59%.
وتكمن المشكلة التي تؤرق الإسرائيليين في عدد السكان الفلسطينيين، الذين يعيشون في مخيمي اللاجئين، شعفاط ومنطقة كفر عقب، التي تعتبر تابعة للقدس، لكن تم فصلها عن المدينة بواسطة الجدار الفاصل.
وتشهد هذه المناطق حالة فوضى، ولا تصلها السلطات الإسرائيلية لتطبيق القانون فيها. ونتيجة لذلك تم بناء عشرات آلاف وحدات الإسكان غير القانونية فيها، التي حوَّلت المنطقتين إلى مناطق فقر مكتظة، لكنها في الوقت نفسه مناطق جذابة للفلسطينيين، الذين يبحثون عن سكن رخيص.
اللافت أنه منذ عدة سنوات ومعدل خصوبة النساء اليهوديات في القدس أعلى من معدل الخصوبة العامة في أوساط النساء العربيات في المدينة، فعدد الأطفال الذين تلدهم اليهودية بحياتها يبلغ 4.28، مقابل 3.23 فقط لدى المرأة العربية. قبل بضع سنوات كانت النسبة معاكسة. فميول الحداثة، والتحولات الغربية في أوساط عرب شرقي القدس غيرت صورة الوضع، خاصة أن نسبة كبيرة من اليهود المتدينين يميلون للإنجاب.
إلا أنه رغم ذلك فإن الأغلبية اليهودية في المدينة بقيت تقل، والسبب هو أن 18 ألف يهودي يغادرون المدينة كل سنة، حسب شرغاي.
سجن مقدس
يقول تامر آسر، 35 عاماً، ويعيش في بيت حنين بشرق القدس: "نؤمن جميعنا بأن هناك شيئاً مقدساً في هذه المدينة، لكن (البقاء) صعبٌ للغاية"، مضيفاً: "يراودك شعورٌ بأنك تعيش في سجنٍ هنا. الناس مُتوتِّرون للغاية. وتشعر أنك معزول: فعليك أن تكون إما مع المجتمع الإسرائيلي وإما المجتمع العربي.
بالنسبة لأهل القدس فالتوتُّر أمرٌ عليهم تعلُّم التعايش معه. فهو يتراكم يوماً بعد يوم، ويبلغ ذروته مع بداية ونهاية يوم السبت، وهو عطلة أسبوعية ليوم واحد يبني اليهود المتدينون حياتهم حولها، ويستفيد منه العلمانيون اليهود والعرب لأقصى درجة.
أشد ثوراتها
وتشير نيويورك تايمز إلى أنه مع تكدير الأجواء في الضفة الغربية وغزة، ذلك الذي نتج عن اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل، فإن المدينة تستعد لأشد ثوراتها خلال أشهر إن لم تكن أعواماً، لكن لم يتيقن أحدٌ من مدى سوء ما قد يحدث.
تقول جين آرون، وهي مديرة عقارات أصلها من مدينة سياتل بولاية واشنطن الأميركية، وانتقلت إلى إسرائيل في عام 2003، ثم إلى القدس عام 2009: "لا أحد يريد أن يكره الآخر، لكن الوضع مُتوتِّر".
وأضافت: "يمكن للأحداث أن تشتعل من حولك".
عاصمة العالم أجمع
ويشق شلومو فيتوسي -وهو لحَّام يبلغ من العمر 69 عاماً- طريقه ببطء على دراجته عبر أجمة المتسوقين، ويتدلى من مقبض الدراجة حقيبة بها زجاجة نبيذ كوشر (ويطلق لقب كوشر على الطعام والشراب المصنع وفقاً للأحكام اليهودية ليكون حلالاً).
وفيتوسي هو عضو بحركة حباد (وهي حركة تتبع الطائفة الحسيدية في اليهودية الأرثوذكسية)، ويعيش بالقرب من البلدة القديمة، ويقول إنه يستيقظ في الثالثة صباحاً كل يوم ويشق طريقه إلى حائط البراق (الحائط الغربي) بحلول الساعة الرابعة صباحاً.
عاش فيتوسي في فرنسا لفترةٍ من الزمن، لكنه عاد إلى إسرائيل قبل 14 عاماً. وقال: "لا يوجد ما يمكن القيام به بالخارج". وأضاف باتقادٍ مسياني: "قريباً ستصبح القدس عاصمة العالم أجمع" (اليهود المسيانيون: هم من يؤمنون بالمسيح).
وفي حين يشيع هذا الفخر بالمدينة، فإن أي احتكاك تقريباً مع مقدسي سيتسبَّب في تدفُّق سيل من المظالم.
يدفعوننا للجنون
وصل خط القطار الخفيف إلى محطة باب دمشق (باب العمود)، حين كان جميل رجبي، وهو سائق يبلغ 54 عاماً، ينهي صلاته في موقف انتظار الحافلات، ويطوي سجادة الصلاة.
ويعيش رجبي في سلوان، وهي بلدة عربية شرقي القدس، حيث بدأ مستوطنون يهود شراء منازل. وانتقل أحدهم ليقطن إلى جواره. ويلقي الأشخاص بالحجارة على سيارات المستوطنين، لكن الصخور الآن ترتد بفعل شبكات واقية لتقع على سيارات رجبي.
يقول رجبي إن مجتمعه أراد أن يعيد شراء المنزل من المستوطن وتحويله إلى حضانة للأطفال، لكن القاطن الجديد رفض بيعه. وأضاف: "إنهم يدفعوننا للجنون".
الصلاة في الأقصى
عند باب دمشق، تقبع كتيبةٌ من الكاميرات في انتظار التقاط ما سيحدث عندما سينبثق المسلمون من المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة، في الحرم القدسي، الذي يسميه اليهود باسم جبل الهيكل.
تنتهي الصلاة، ويتدفَّق بحرٌ من الأشخاص ووجوههم مستبشرة.
ويقول نبيل الهجرسي، 65 عاماً، إن رسالة رجال الدين كانت: "الصبر، وعدم القلق مما يقوله الآخرون. الحقيقة ستظهر يوماً ما".
والهجرسي هو مستوردٌ عاش في ولاية مينيسوتا الأميركية لعدة سنوات، لكنه عاد إلى القدس قبل عقدٍ من الزمان. وقال: "الجميع يحب موطنه"، مضيفاً أنه لا يمكنه تخيُّل أن يُدفَن في أي مكانٍ آخر. وقال: "المرء يريد أن يموت في موطنه".
لكنه قال إن العودة لم تكن سهلة: "الحياة قاسية هنا على الجانبين، حتى يحل السلام".
البيض للعرب
وفي زقاقٍ يقود إلى حارة المسلمين، ارتفعت الضوضاء. فقد ألقى المستوطنون اليهود من أعلى سطح بناية بيضاً على المارين العرب أسفلها.
فجأة حدثت جلبة: 3 ضباط حدود إسرائيليين مرتدين خوذات مكافحة الشغب يلاحقون شخصاً. انتهت المطاردة بعد فترةٍ وجيزة. وحين توقَّفَ الضباط لالتقاطِ أنفاسهم، سبَّتهم امرأةٌ بكلماتٍ عربية؛ ومرَّ بجانبها أحد الضباط قائلاً: "امضِ في طريقِكِ".
لكن الصراع في القدس ليس بين اليهود والعرب فحسب.
هجرة اليهود العلمانيين
حسب معطيات معهد القدس للبحوث فإن معدل العلمانيين في القدس يبلغ اليوم 20% فقط.
تقول رينا بور، التي نشأت في عكا على ساحل إسرائيل، إنها اشترت شقتها في حي التلة الفرنسية بالقدس قبل سنوات. وأضافت: "لكن الآن نصف الأشخاص متدينون"، حيث أصبح البقاء أمراً شاقاً بالنسبة لها. وتُخطِّط للانضمام إلى شقيقتها في تل أبيب، في نزوحٍ جماعي آخر لليهود العلمانيين من المدينة المقدسة منذ 1980.
وقالت بور إنها لا تزال تحب المدينة، التي تتحدَّث عنها بصيغة التأنيث، كما جاء في النصوص اليهودية المقدسة: إنها جميلة. أحب الجو والإلهام والفن المعماري. إنها فريدةٌ ولا مثيل لها ومُشوِّقة. والناس صالحون"، مضيفةً: "لكنني سئمت منها".
عندما يكون لديك أصدقاء يهود
يقول محمد زيادة، 39 عاماً: "أقود السيارات منذ 18 سنة". وأضاف أن لديه العديد من الأصدقاء اليهود، ويذهب إلى حفلات زفافهم، ويحضر جنازات أقاربهم، كما يقابلونه بالمثل.
وأضاف: "لكن هناك مشكلةٌ دينية في القدس، إنها مدينةٌ للعنصرية. بمجرد وجود قليل من الفوضى بين اليهود والعرب، لا يستقل اليهود سيارة الأجرة خاصتي، ولا يذهب العرب إلى المركز التجاري. وإذا ذهبت إلى حي يغلب عليه التديُّن واكتشفوا أنني عربي، فسيُلقون الحجارة على سيارتي".
يمرُّ زياد بسيارته على أرضٍ خاوية يقول إن عائلته تملكها، لكنه أضاف أن السلطات الإسرائيلية منعته من البناء عليها. ويرفض هو بدوره بيعها.
وقال زيادة: "لن يحل السلام أبداً هنا". لكنه لا يلقي باللوم على أحد. وأضاف: "إذا أخرجوا كل العرب، فسيأكل اليهود بعضهم بعضاً. والأمر نفسه سنفعله نحن أيضاً".