هناك بعض الدعاة يقولون إن الجاهلية هي الشرك فقط، وإنه لا جاهلية بعد الإسلام، لكن هناك مظاهر ودلائل على أن الجاهلية في زماننا أسوأ مما كانت عليه وقت الجاهلية الأولى (بخلاف الشرك الصريح بالله عز وجل)، كما أن هناك تحذيرات من الجاهلية بعد الإسلام كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: "يوشك أن يُهدم الإسلام حجراً حجراً من جهل عادات الجاهلية".
وفي الحديث قال رسول الله ﷺ: "ومن ادَّعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثا جهنَّم"، فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلَّى وصام؟ فقال ﷺ: "وإن صلّى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله". كما أنه ﷺ قال: "يا معشر المسلمين، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم"! إذن، ذكر الجاهلية والعمل بصفاتها من الممكن أن يحدث بعد الإسلام حتى إن بعض صفاتها كالعصبية كادت تحدث في عهد النبي ﷺ!
كما أن فترة الجاهلية كان فيها من الصفات الحسنة ما يغفل عنها الكثير من الناس، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، ومثل هذه الصفات جاء الإسلام ليؤكدها وليثبّتها في المجتمع، لكن -للأسف- الكثير من هذه الصفات الحسنة أصبحت غير موجودة الآن في مجتمعاتنا، كما أن الصفات السيئة في الجاهلية والتي جاء الدين ليحاربها وليغيرها بالكلية، الكثير منها أو الغالبية العظمى (عدا الشرك الصريح بالله) أصبح منتشراً بشكل كبير الآن.
فلنسرد بعض صفات الجاهلية الحسنة التي تخلّينا عنها وبعض صفاتها السيئة التي رجعنا لها، لندرك أنه وإن كنا لا نتبع الدين كمسلمين فهلا حافظنا على قيم عرفها العرب كثوابت حتى قبل الإسلام؟!
من صفات الجاهلية الحسنة على مستوى الفرد ما يلي:
الصدق: تذكَّروا كيف كان أبو سفيان (زعيم قريش قبل إسلامه) صادقاً مع هرقل الروم حين سأله عن رسول الله، لم تدفعه عداوته مع رسول الله ﷺ إلى أن يكذب من أجل انتهاز الفرص أو تشويه خصمه!
الكرم وقِرَى الضيف: كان الرجل من كرمه يذبح الذبائح لضيفه الغريب الذي نزل بساحته، حتى كان أحدهم يذبح ناقته وهي كل ما لديه، فقط كي يكرم ضيفه!
المروءة والجوار: إذا دخل رجل غريب في جوار أحد من العرب، فإنه يحميه مما يحمي منه نفسه وأولاده؛ بل ربما يقاتل أهله وأصحابه إن اعتدوا على من في جواره! بل تذكروا أن رسول الله ﷺ وأبا بكر الصديق كانا في جوار أناس من المشركين ومنعوهما ممّن هم على دينهم نفسه ودفعوا الأذى عمن جاء ليهدم عقائدهم وعقائد آبائهم!
الشجاعة: وقد كانت فطرية عند العرب قبل الإسلام وكانوا يستهينون بالحياة ويفتخرون بالموت قتلاً، يقول أحدهم: إنا -والله- لا نموت حتفاً (ميتة طبيعية في الفراش) ولكن قطعاً بأطراف الرماح وتحت ظلال السيوف.
وكان العرب كذلك يتميزون بالصبر وقوة التحمل والجَلَد، سواء على الفقر والجوع، أو الحرّ والسفر، أو صبر في القتال والنزال، لكنهم كانوا لا يصبرون على الذل أبداً!
العزة: كان العرب يأنفون من الذل بالفطرة ويرفضون الضيم ويعشقون الحرية، وهذا عنترة العبسي يقول في الجاهلية:
لا تسقني ماء الحياة بذلة .. بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم .. وجهنم بالعز أطيب منزل
أما على مستوى المجتمع، فكان في فترة الجاهلية حضارة دليل عليها سد مأرب باليمن، ومن الناحية الثقافية فكانوا هم أهل الأدب العربي ودليل على ذلك القصائد والمعلقات وسوق عكاظ.
أما بالنسبة لحالنا اليوم بالنسبة لصفات الجاهلية الحسنة (والتي أكدها الإسلام)، فإننا قد تخلينا عنها إلا قليل القليل من القابضين على الجمر، فالكذب تفشى ووصل لدرجة الفجور وما أكثر استسهال الناس للكذب! وانتشر البخل والشح ومنع الصدقات والزكاة حتى أصبحت الشوارع مليئة بالمتسولين في بلاد المسلمين وكذلك أطفال الشوارع والعشوائيات.
أما المروءة والجوار، فقد تحول الناس الآن إلى مخبرين "أمن دولة"، ترى جارك هو الذي يُبَلّغ عنك وترى صاحبك بالأمس وجارك -وربما أحد أقاربك- يفرح للقبض عليك ظلماً، وترى انعدام المروءة وصل لأن تُسحل النساء في الشوارع على يد أخبث خلق الله ولا يتحرك لنصرتهن أحد، ورحم الله صحابي يوم قينقاع الذي قتل يهودياً اجترأ على كشف عورة امرأة من نساء المسلمين.
أما الجبن، فأصبح (كما يقال بالمثل الشعبي المخابراتي القبيح) سيد الأخلاق! وأصبحت الناس تؤْثر السلامة، وتهاجم من يتحلى بالشجاعة؛ لأنه لا يؤثر السلامة مثلهم. أما الذل، فقد وصل لدرجة لا يتخيلها أحد من خسران الدنيا والآخرة فقط لحفظ النفس. وأما عن الحضارة، فإننا (وحدِّث ولا حرج) بلاد التخلف والأمراض والأُمية، وأما عن الشعر والأدب فقد صار شعبان عبد الرحيم أمير شعراء العصر الحديث!
أما صفات الجاهلية السيئة، فهي عديدة، منها ما ذكره جعفر بن أبي طالب في وصف الجاهلية أمام النجاشي حيث قال: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف".
فذكر 6 صفات منها، 4 نعيشها الآن: إتيان الفواحش وقطع الأرحام وإساءة الجوار، وأبرزها أن يأكل القوي منا الضعيف، وسأتغاضى عن أكل الميتة فإنه قد ثبت أن في بعض الدول العربية قد أكل الناسُ الحمير والكلاب، لكنهم كانوا مذبوحين والحمد لله!
وعندما وصف أمور الإسلام التي جاء بها رسول الله ﷺ، قال: "فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام".
فذكر 11 صفة، تخلينا عن 9 منها الآن بشكل كبير (إلا من رحم ربي)، فبخلاف التوحيد والعبادات، أصبح الصدق نادراً والأمانة كذلك، وصلة الرحم ضعيفة أو معدومة أو روتينية بلا حب ولا وُد، وحسن الجوار نادراً إلا في المصالح، والكف عن المحارم والدماء أصبح أمراً خيالياً فقتل العشرات والمئات من دون أي ذنب أصبح أمراً مرحَّباً به، والنهي عن الفواحش تحول إلى الجهر بالفواحش، وما إعلامنا العربي -للأسف- في العديد من بلادنا إلا حظيرة للفواحش، وأكثر كلمات البحث على جوجل في مجتمعاتنا هي الكلمات الجنسية!
وأما التحرش فحدث ولا حرج، وقول الزور أصبح سمة الإعلام والقضاء والكثير من الناس حتى ممن ينسبون أنفسهم إلى الدعوة، وأكل مال اليتيم أصبح مباحاً، ويكفي مُصادرة أموال المئات من جمعيات رعاية الأيتام، وقذف المحصنات انشغل به العوام والناس في كل مكان حتى على أشرف النساء وأطهرهن، وتذكر ما قيل في نساء رابعة وجهاد النكاح وغيرها من سفالة انتشرت في المجتمع بإعلام ضال مُضل يستبيح الأعراض ويقذف المحصنات المؤمنات.
كما أنه كان من أخلاق الناس بالجاهلية الاعتداء في السباب، أي إنّ من سبّ الرّجال سُبَّ أبوه وأمه، وكان أحدهم يسبّ أخاه فيعيّره بأمِّه، وما أكثر هذا في زماننا! وكان عندهم جفاء في الفعل والقول حتى إنهم ليتّهموا الجارية بالسَّرقة من دون بيّنة إذا فقدوا شيئاً، فيعذِّبونها ويفتِّشونها حتَّى يفتشوا قُبُلَها وهي بريئة، ومثل هذا يحدث الآن في المعتقلات تارة باسم كشوف العذرية وتارة أخرى بغرض الفحش والاغتصاب، ألا قبّح الله من فعلَ ومن أيّد ومن رأى وسكت!
حتى صفات نساء الجاهلية وتبرج الجاهلية الأولى الذي ذكره الله في القرآن، فإنه كانت بعض نساء الجاهلية إذا قال لها رجُل كلمةً قبيحةً وهي بطريقها في غيبةِ نفرِها، ولْولَت وقالت: لو كان ها هُنا أحدٌ من أنفارِنا، وتقول: لقد قال لي كلِمة تملأ الفم (تستعظِم ذلك)، وكان في بعض نسائِهم من الحياء ما يجعَلُها إذا سمعت ذِكْر الزنا تضَع يدها على رأسِها حياء، وكانت المرأة متبرِّجة كاشفة عن جيْبِها، هذا هو تبرُّج الجاهلية الأولى.. فانظر إلى نساء أصبحن يرقصن في الشوارع ونساء يقلن أقبح الألفاظ التي يستحيي الكثير من الرجال ذكرها.
ومن صفات الجاهلية المعروفة "العصبية القبلية"، وقال رسول الله ﷺ:"مَن قاتل تحت راية عمِّية يغضب لعصبة أو يدْعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقُتِل، فقتلة جاهلية".. ومن العصبية القبلية الآن عصبية الحزب أو عصبية البلد (الوطن)، وهذا -كما ذكرنا- قد حدث في عهد النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار فقال: "يا معشر المسلمين، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!".
والمفاخرة بالآباء أيضاً، من عادات الجاهلية القبيحة والمنبوذة، وهي من أسوأ ما نعيشه الآن أيضاً، ومنها أن يقول الرجل أو المرأة: "هل تعرف أنا ابن من؟ هل تعرف من يكون عمي أو خالي؟ إلخ…"، وقال رسول الله ﷺ :"يا معشرَ قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء".
ومن أهم صفات الجاهلية الحالية، اتباع الهوى والتنازل عن بعض ما أنزل الله (ولست هنا أتكلم عن التنازل عن الدين بالكلية)، فأغلبية التيارات السياسية الآن (بخلاف الإسلاميين) هم ضد الاستمساك الكامل بالشريعة، الصغيرة والكبيرة، وقد سمى الله -سبحانه وتعالى- ذلك بحكم الجاهلية كما في هذه الآيات الكريمة.
قال تعالى: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمْ أَنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنّ كَثِيراً مِّنَ النّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) (سورة المائدة: 49-50)
فما أكثر صفات الجاهلية الخبيثة بيننا الآن! وما أبعدنا عن صفاتها الحسنة!
خلاصة القول، إن كان من الصعب أن نتحول لمجتمع إسلامي حضاري، فعلى الأقل دعونا نحاول أن نكون مجتمعاً جاهلياً أفضل!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.