الحكومة الألمانية، وفي الأيام الأولى لتحرير محافظة نينوى، تبرعت بأكثر من (70) آلية ثقيلة؛ لدعم الجهود المحلية في عمليات رفع الأنقاض وإعادة تأهيل المناطق المتضررة، خاصة مدينة الموصل القديمة التي تقع في الجانب الأيمن منها. وضمن هذا المسعى، تبرعت بمبلغ قيمته (100) مليون دولار، هذا إضافة إلى الأموال التي تبرعت بها اليابان والولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، إلى جانب المنظمات الدولية، والتي أعلن عنها رسمياً على لسان مسؤولي هذه البلدان والمنظمات.
لكن، ومن خلال متابعة عمل الفرق الشبابية التطوعية، يلاحظ أنها تعاني بشكل كبير عدم توافر أبسط الآليات لدعم جهودها الكبيرة التي تبذلها في رفع الأنقاض وتنظيف الشوارع وحفر الآبار، وهناك حديث على درجة عالية من الغضب يدور بين أوساط هذه الفرق بأن ما تبرعت به ألمانيا ذهب إلى الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة التي لم تتضرر إلا بشيء بسيط إذا ما تمت مقارنته بالجانب الأيمن من الموصل، وبما لا يستوجب على الأقل أن تُرسل تلك الآليات إلى الأقضية والنواحي، بينما يتم حجبها عن مركز مدينة الموصل، الذي وصلت نسبة ما تعرض له من تدمير إلى ما يزيد على 80%، حسب الإحصاءات الرسمية وكذلك المنظمات الدولية.
على ما يبدو، فإن سبب مثل هذا المنهج من قِبل الإدارة المحلية في نينوى (حسب قناعتنا الشخصية) يعود أولاً إلى أن معظم أعضاء إدارة المحافظة ومجلس المحافظة ينتمون -من حيث مسقط الرأس- إلى الأقضية والنواحي، بمعنى أن العراق عموماً لم يُبتلَ بالطائفية والعنصرية القومية؛ بل ابتُلي أيضاً بالمناطقية، حيث برز واضحاً بعد عام 2003 تخندُق أبناء الأقضية والنواحي ضد أبناء المدينة، فالعصبية القبلية والعشائرية باتت تفرض نفسها في تحديد المواقف وردود الفعل تجاه أبسط وأعقد المواقف أهمية، سواء من الناحية الإنسانية أوالوطنية.
واضح جداً أن سكان مركز الموصل الذين يمثلون الوجه المدني والتاريخي لهذه المدينة، يدفعون اليوم الثمن باهظاً لجميع القوى (سياسية، طائفية، عشائرية) التي باتت تهيمن وتتحكم في مصير ومستقبل محافظة نينوى بشكل عام ومدينة الموصل بشكل خاص. وحتى هذه اللحظة، ما من جهة يمكن تبرئتها من عمليات التدمير الممنهج التي تجري على قدم وساق.
وبالإضافة إلى حرمان الموصل من الدعم الدولي لإعادة الإعمار وتسرُّب أموال الجهات المتبرعة إلى جيوب الفاسدين من المسؤولين، هذا إضافةً إلى حرمانها من المعدات الثقيلة لرفع الأنقاض التي أشرنا اليها- فقد استجدَّ هذه الأيام في هذا المسلسل عمليات بيع الأراضي بصيغة المساطحة والتي تمتد من مجسّر المثنى وحتى حي الزهور.
ولا يُستبعد في هذا الملف، أن من يقف وراء هذه العملية شبكة معقدة من المتورطين، في مقدمتهم مسؤولون حكوميون بالمحافظة، ليس هدفهم الربح فقط بقدر ما تختفي وراء ذلك خطط مشبوهة تُضمر نوايا خبيثة، لعل أبسطها إحداث تغيير ديموغرافي في هوية المدينة، وهذا المنحى تعززه سهولة الحصول على هوية الأحوال المدنية والجنسية العراقية مقابل مبلغ من المال، بينما المواطن الموصلي إذا لم يدفع رشوة فلن يتمكن من الحصول على هذه المستندات الرسمية إلا بعد عدة شهور يقضيها ذهاباً وإياباً وهو يراجع دائرة الأحوال المدنية والجنسية العراقية (كاتب هذه السطور مرَّ شخصياً بهذه التجربة ولم يستطع تجديد هذه المستندات الرسمية له ولزوجته وابنه إلا بعد أن دفع 450$ لأحد الوسطاء).
إن مركز مدينة الموصل يتعرض لصفحة جديدة من عمليات التدمير لا تخرج عناوينها عن إطار التغيير والتشويه والتطهير، وربما ما يجري الآن أشد خطورة بكثير على المدينة مما كانت قد تعرضت له في أثناء تحريرها، وعلينا ألا ننسى ما كان تنظيم داعش قد بدأ به من عمليات محو وإزالة استهدف فيها شواهدها التاريخية والحضارية والدينية، هذا إضافة إلى قيامه بتزوير وثائق رسمية للعديد من العقارات، كما منح الكثير من أعضائه المحليين هوية أحوال مدنية مزوَّرة تثبت أن مسقط رأسهم مدينة الموصل بما يتيح لهم أن يكونوا بمنأى عن مطاردة السلطات العراقية، خاصة بعد أن يتم تحريرها من قِبل الجيش العراقي.
إن الموصل تشهد حركة محمومة للذهاب بها إلى صورة أخرى لا تشبهها ولا تعبر عن هويتها المدنية بملامحها الدينية والقومية الفريدة والمتنوعة، وكان أبرز علامات هذا المنحى الممنهج تدمير بنية الموصل القديمة بما تحويه من بيوتات وأسواق وخانات وقناطر وجوامع وكنائس يعود تاريخ بنائها إلى عشرات السنين، أبرزها جامع النوري بمنارته الشهيرة (الحدباء) التي يصل عمرها إلى (950) عاماً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.