الحياة من علٍ

فما إن يلم بنا الحزن حتى تنطفئ عندنا شعلات الحياة تلفنا الحيرة ويتمكن منا الوهن والضياع، وما إن يقصد الفرح أعتاب قلوبنا حتى ننسى أن قوانا خارت يوماً وأشهرنا الراية البيضاء.. ومع ذلك جميلة هي في تناقضاتها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/17 الساعة 03:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/17 الساعة 03:11 بتوقيت غرينتش

في قاعة الانتظار بعيادة للطب العام، سيدة في مقتبل العمر خرجت لتوّها من عند الطبيبة.

إشارات عدة تفيد بأنها تحمل بشرى سارة.. بثغر باسم تمشي بأناة إلى أن استقر بها المقام في موضع وسط القاعة؛ حيث تجلس سيدة تبدو عليها معالم الوقار.

قبل أن تأخذ وقتها في الجلوس واضعة يدها على بطنها، وشوشت الشابة في أذن مرافقتها فلم تنبس هذه الأخيرة بكلمة، في حين، لخصت ملامح وجهها جل معاني البهجة والسرور.

طلتها كانت بهية، أسرفت في التأنق إلى حد كبير، كان لباسها جميلاً وزينتها أيضاً بمختلف أشكالها وضعت بتناسق وتناغم جد لافتين للنظر.

في الوقت الذي كانتا تهمان فيه بمغادرة القاعة، أقبلت ممرضة تحمل ظرفاً كبيراً ناولته للشابة، تبادلا أطراف حديث مقتضب حثتها من خلاله الممرضة على تناول أطعمة معينة مع الابتعاد ما أمكن عن مصادر التوتر ومسببات القلق.

في نفس القاعة وفي جانب قصيّ منها يركن رجل أربعيني رفقة زوجته هو يتألم ويئن وهي تبكي وتتحسر، تتعالى آهاته ويتزايد نحيبها، يبرح مكانه فتلحقه مواسية إياه، يتنقل من هذا المكان لذاك من فرط الألم ينادي بالراحة ويستنجد القدرة الإلهية بأن ينتهي ما سماه بـ"العذاب".

بحركة يد، كفكفت الزوجة دموعها برهة لتسيل مباشرة بعد ذلك سيلاً جارفاً بعدما استوصاها خيراً بأبنائهما مضيفاً بنبرة حادة "إنه الموت".

كان لجملته تلك وقع كبير على رفيقة دربه وعلى كل من يشاركهما القاعة.

تناولت الزوجة هاتفها متصلة بأحدهم والدموع على خديها كوادٍ منهمر، لم تفلح في التقاط الخط الذي طلبته، أعادت المحاولة مرة ثانية لكن بدون جدوى. في مشهد مشابه لحاجة أو معتمرة تسعى بين الصفا والمروة كانت هذه السيدة تخطو والتوتر يتملكها إلى أن عدلت عن ذلك أخيراً.

بكثير من الحنان وبعطف مبالغ فيه وضعت يديها على مكمن وجع زوجها، وكأن في أناملها سحر معين من شأنه تقميط جروحه أو ربما أرادت عبر ذلك تعويض ما استعصى على الأدوية فعله، أضمرت دموعها وراحت تدعو له بالشفاء العاجل.

في صقع آخر، مع بزوغ فجر كل يوم تبدأ قصة عامل بسيط، يحبه معارفه ويحظى باحترام وتقدير واسع من لدن الجميع.

بلغ من العمر عتياً واشتعل رأسه شيباً، غطت التجاعيد تقاسيم وجهه وترهلت عضلاته، تقوس ظهره من شدة ثقل ما يحمل عليه يومياً من سلع، صحته في تراجع، بصره انحسر، ومع ذلك لا يزال مواظباً على العمل.

لا يؤمن بقانون يدّعى عطلاً، ولا يعرف ليوم راحة سبيلاً أو أسبوع فسحة طريقاً، وهو الذي يعيل أسرة تتكون من 4 أفراد يغدقهم محبة وعناية.

عندما يعود لبيته المتواضع منهكاً تستقبله زوجته مبتسمة ملء شدقيها، فينسيه أثرها حجم التعب الذي أحسه طيلة ساعات العمل المتواصلة تحت أشعة الشمس التي لفحت جلده، يربت على كتفيها برقة ويطبع قبلة حانية على جبينها عربون المودة والمحبة التي تجمعهما لعقود.

كعادته، فور عودته إلى وكره يتفقد أحوال صغاره؛ فتجده يساعد هذا على إنجاز واجباته المدرسية، يحدث ذاك المغترب هاتفياً ليطمئن على أحواله ويلاعب تلك الصغيرة التي تتربع على عرش فؤاده، يشاغبها وتتعالى ضحكاتها فتملأ كل الأرجاء، هذا في الوقت الذي تحضر فيه الزوجة وجبة العشاء.

تحوم الأسرة حول مائدة الطعام التي لا تختلف مكوناتها في شيء عن بساطة المنزل وأثاثه، وككل مرة، يثني الأب على مهارات زوجته في الطبخ ويمدح صنيعها، تنظر إليه بعين رضا وهي تطعم فلذات كبدها.

في الجانب الآخر من المدينة وفي أحد شوارعها الرئيسية، يسارع صبي، في عمر الزهور، زمن إشارات المرور كي يظفر بعائدات "صفقة" رأسمالها علبة مناديل ودريهمات معدودة.

أشعث الشعر أغبر الهيئة، في الوقت الذي يتعلم فيه أقرانه الألف والياء وينعمون دفء الأسرة وحنانها، يصول هو هذا الحي وذاك ويجول أماكن متفرقة لعله يغنم من سخاء المارة والسائقين على حد سواء.

يفترش الأرض ويلتحف السماء ويقتات على ما يجود به سخاء من يشفق على وضعه.

مضطر هو لا بطل، بعدما افترق والداه استعاره الشارع واستعار معه معالم براءته وأشياء أخرى، نُسفت طفولته وخانه الدهر كما سُلب حقه المشروع في العيش في كنف أسرة.

هناك مهندس يقضي عطلته بإحدى جزر البرازيل، تعوّد على السفر مذ أن كان طالباً بإحدى أعتد الجامعات الألمانية المتخصصة في الهندسة والبناء والتي تخرج فيها حاملاً شهادته العليا.

فور تخرجه التحق مباشرة بمجموعة شركات والده ليصبح فيما بعد مديراً لأحد فروعها ببلاد "العم سام".

يعيش الترف بشتى أنواعه، وهو الذي تدرّج في مسالك البعثات الفرنسية والإنكليزية وتلقى تربية غربية صرفة، لم تنَل الحياة منه مقدار ذرة ولا تزيده الدقائق التي يحياها سوى إقبال متزايد وغير محدود على الاستمتاع بكل شهقة نفس.

يسافر بين الفينة والأخرى ويجالس أكبر رجال المال والأعمال في مختلف ربوع العالم.

وهنا يافعة حاملة لشهادة عليا تخرجت منذ سنوات من الجامعة لتنضم إلى قائمة المعطلين، لم تعد تبرح منزلها بعدما خابت آمالها وباءت جل محاولاتها في العثور على وظيفة محترمة بالفشل، فباتت كطير مجرد الجناحين لا يقوى على التحليق.

استنزفت طاقتها فلم تعد متشبثة بأي طوق نجاة، تقضي أيامها متخفية وراء صمتها متوارية عن سهام الأعين وامتحان ملاقاتها، تندب حظها العاثر وتنعى واقعها بأسف وأسى شديدين.

في الضفة الأخرى أيضاً تجري أحداث وحكايات وإن اختلفت مع ما روي سلفاً في بعض التفاصيل إلا أنها تصب في مجرى واحد ألا وهو الحياة!

فبين فرح سيدة بخبر حملها وشغفها الكبير في أن تصبح أماً وبين حزن راشدة حيال وضع زوجها الصحي المتأزم.. بين مخلوق سيرى النور بعد استيفاء 9 أشهر وبين مخلوق آخر عليل يحس بدنو أجله ولا يدري متى تحن ساعة الخلاص، ثم بين شاب قطف ثمار النجاح متلذذاً بطعمه.. بينما شابة تكدرت حياتها تتجرع المر في كل دقيقة تحياها، تسامر الفراغ وتسامرها الخيبة متى تذكرت أنها تعيش عالة.. بين مشوار عُبدت له الطريق ليُكلل بالنجاح وآخر أُجهض في مهده، ثم بين زوج استطاع إخراج سفينتهما إلى بر الأمان، يعيش أولادهما بينهما ويغنمان بصحبتهم لحظات أسرية مفعمة بالأحاسيس الجميلة والرعاية والاهتمام، بينما يعيش طفل آخر حالة شارع، ضحية زيجة فاشلة حُرم على أثرها من الحنان والعطف الأسري ليحتضنه الشارع: كل هذا وأشياء أخرى ما هو إلا وجه من أوجه تناقضات حيواتنا، فما كانت الحياة لتكون انسيابية مرنة لولا وجود جدلية الفرح والحزن، التعب والراحة، الربح والخسارة، اللقاء والفراق، البداية والنهاية.

فما إن يلم بنا الحزن حتى تنطفئ عندنا شعلات الحياة تلفنا الحيرة ويتمكن منا الوهن والضياع، وما إن يقصد الفرح أعتاب قلوبنا حتى ننسى أن قوانا خارت يوماً وأشهرنا الراية البيضاء.. ومع ذلك جميلة هي في تناقضاتها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد