– قال صديقي: أنتم تقدسون "البخاري" وإن ادعيتم أنه غير معصوم!! والقول بأن كل ما فيه صحيح لا يعني إلا أمراً واحداً هو: أن البخاري ﻻ يخطئ، فلا تتهربوا من هذه الحقيقة.
* يا صديقي.. إن كنت تريد الفهم ﻻ مجرد ترديد ما يقال، فأضف لعقلك الواعي ما أقول، واسمعني بأذن قلبك وفرّغه من الهوى، وحاكم كلامي للمنطق الإنساني البسيط.. ﻻ أريد منك سوى هذا.. هل هذا ممكن؟!
– تفضل.
* قولك إننا نقول بعصمة البخاري ونقدسه غير صحيح، هل تدري متى أسلم لك قولك هذا؟!
– متى؟!
* إن كنا نقول إن كل ما صدر عن البخاري صحيح.. عندها فقط يصح لك القول بأننا نقدسه، ونقول بعصمته، وإن ادعينا العكس!
– ألستم تقولون ذلك عملياً؟!
* كلا.. نحن نقول إن كتاباً من كتب الإمام البخاري الذي سماه "الجامع الصحيح من سنن رسول الله وأيامه" هو الصحيح خاصة، وليس كل ما ألفه، فللبخاري "التاريخ الكبير"، "الأدب المفرد" ولم نقل بصحة ما فيهما، بل العلماء متفقون على أن "الأدب المفرد" مثلاً به بعض الضعيف، وأنه لم يشترط فيه ما اشترطه في الصحيح؛ لذا أتى دونه في المرتبة والأهمية، بل يفضلون عليه صحيح مسلم بن الحجاج، بل يفضلون عليه سائر الكتب الستة.. فأين تقديس "شخص" البخاري الذي تزعم؟!
إن أردت الإنصاف عليك أن تقول: نحن نحترم "عمل" البخاري في واحد من كتبه ونضعه في أعلى مراتب البحث العلمي الموضوعي.. فليس الأمر متعلقاً بذات البخاري، بل لعمله الذي ﻻ يملك كل عاقل إلا أن يقول بمثل ما يقوله علماء الإسلام فيه!
– اسمح لي: هذه مبالغة، فكيف يقول كل عاقل بما يقوله المشايخ عن البخاري؟! فنحن عقلاء، لكننا ﻻ نبالغ كما تبالغون.
* يا عزيزي.. ليست مبالغة، هل تدري أين المشكلة؟ إن مشكلتكم الحقيقية أنكم تظنون أنكم أذكى من علماء الإسلام أو المشايخ، كما تقول، فتأتون لتعدلوا عليهم اختصاصهم!
أتدري أين المشكلة أيضاً؟ المشكلة أنكم تظنون أن العلماء يمكنهم أن يخدعوا أنفسهم أو يكذبوا عليها مما ﻻ يفعله عاقل، المشكلة أن عقولكم امتلأت بعدم الثقة في علماء الأمة، كما أراد اﻻستعمار تماماً عبر وسائل الإعلام المختلفة على مدار عقود من التشويه.. وكي تقف على ما أقول، فاعلم أن صحيح البخاري ما هو إلا "بحث مُحَكّم" بلغة عصرنا!
– بحث مُحَكَّم!!
* نعم هو كذلك، إن البحوث المحكمة التي تعرض على اللجان العلمية المختصة لإقرارها تختلف في قوتها العلمية عن غير المحكمة التي لم تعرض على لجان أهل الاختصاص قبل السماح لها بالنشر في مجلات محددة، بل إن قوة العالم وإسهاماته الحقيقية تقاس في عصرنا بعدد ما نشر من بحوث محكمة في العلوم الشرعية والطبيعية والإنسانية على السواء، ذلك لأن البحث ﻻ يعد ثمرة جهد فردي فقط، بل هو جهد فردي مع إقرار جماعي من أهل الاختصاص بصلاحيته وسيره على قوانين العلم، ومن ثم يكتسب البحث قوته؛ لأن كل من قرأ البحث يكتب عنه تقريراً بالموافقة على مضمونه وصحة معلوماته ومصادره، وما وصل إليه من نتائج، فيكون ثمرة عقول ﻻ عقل واحد!!
– فهل حدث ذلك مع صحيح البخاري؟!
* بل حدث ما هو أكثر وأدق، إن صحيح البخاري تخطى درجة البحث المحكم الذي يقرأه خمسة من أهل الاختصاص فيقرونه إلى درجة علمية أعلى عبر عنها العلماء بقولهم: "تلقته الأمة بالقبول"، والمعنى المتبادر من هذه العبارة: أن علماء الحديث في الأمة الذين هم أهل الاختصاص في هذا الجانب قد اختبروا ما فعله البخاري وعرضوه على الموازين العلمية الدقيقة، فأقروا صنيعه وحمدوا سعيه، ﻻ لتقديسه بل لإعماله أعلى درجات الحيطة العلمية في التحقق من صدق الأخبار.
ويكفي أن تعلم أن علماء عصره لم يسلموا له دقة حفظه وفهمه إلا بعد أن اختبروه شخصياً، بل كان بعضهم يريد الإيقاع به وإظهاره في مظهر المدعي الذي أخذ من الصيت أكثر مما يستحق، لكنهم أمام تفوقه العلمي في المناظرات التي عقدت له خصيصاً لم يعد هناك مجال للحكم بالهوى والتشهي وعدم الاعتراف بفضله، فلم يصر الأمر الآن – بعد اختبار العلماء لقوته العلمية في عصره ثم لصنيعه في كتابه من بعده، بعد أن عرضوه على الموازين العلمية – متعلقاً بالبخاري، بل بصنيع الجماعة العلمية، وما ارتضته من قواعد علمية دقيقة؛ لذلك فإن الطعن في صحيح البخاري ﻻ يُقصد به البخاري، بل ما ارتضته الأمة من قوانين ومناهج تتحقق من خلالها من صدق الأخبار، فهدمه هدم لقواعد أهل العلم قاطبة، وليس لرجل اسمه "محمد بن إسماعيل البخاري" ألّف كتاباً ما!
– أفهم من قولك هذا: أن كل ما في البخاري صحيح، وأننا ﻻ يجوز لنا أن نعمل فيه أدوات البحث لنختبر صنيعه كما فعل الأقدمون، وأن الأمر صار مغلقاً فلا يجوز البحث فيه.. وهل التقديس إلا هذا يا رجل؟!
* ومَن قال لك إن البحث توقف، وإن العلماء أغلقوا الباب أمام دراسته بل نقده؟! هذا ﻻ يكون، بل ﻻ يملك فعله أحد؛ لأن أول من يدرسه نقداً هم علماء الحديث أنفسهم، إننا نغلقه نعم، لكن كما تغلق نقابة الأطباء الترخيص بمزاولة المهنة أمام من لم يدرس الطب حفاظاً على حرمة العلم وصحة الناس.
فنحن كذلك نغلقه أمام من لم يدرس قوانين علوم الحديث، ومناهج علمائه، والذي سيكون كلامه الخالي من قواعد العلم المتسالمة: عبارة عن قول بالهوى والتشهي، الذي يعبر عنه بـ"انتفاء الموضوعية العلمية" بلغة عصرنا، وهو ما ﻻ يقبل عند كل عاقل، فضلاً عن أهل الاختصاص في أي علم من العلوم.
قليل من العقل.. يرحمكم الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.