لو كان لي وطن

يكبر مع مُضي الأيام التي مرَّت عليه ببطء شديد قاسية بكل فصولها، فلا يزال يذكر حرارة الصيف التي تشوي جلده، وبرودة الأيام التي جمَّدته، فتنوُّع هذه الفصول معه رغم فائدتها فإنها قاسية عليه مرَّت، كبر ليكون في السادسة من عمره؛ ليجد نفسه يطرق الأبواب باباً خلف باب، أو أن يقف في الشارع وحيداً يطرق زجاج السيارات، عسى مِن متصدِّق عليه، بين العطف والنهر يعيش يومه؛ ليعود إلى داره أو قصره الكبير.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/08 الساعة 03:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/08 الساعة 03:16 بتوقيت غرينتش

مستلقٍ على أرصفة الحزن، لا يعرف من هذه الحياة شيئاً، لا يفقه مما يدور حوله غير أصوات تطرق مسامعه، الليل والنهار لا يفرقان عنده شيئاً، فهو عارٍ يحتضنهما كل ما حطَّ الليل احتضنه، ومع بزوغ الفجر يحتضن الصباح؛ ليكمل حياته على هذه الحال، وكما يقال: "دوام الحال من المحال"، يمضي به وحيداً، يوماً عارٍ، وآخر خرقات تكسوه وفتات من الخبز مع قطرات الماء هي طعام يومه.

الحياة قاسية عليه، فالساعات عنده سنوات تمضي ببطء شديد، كأن عقارب الساعة التي لم يعرفها لا تمضي، متوقفة كساعة عتيقة من الزمن الماضي، الحياة أم الأيام التي رمت به إلى هذا الحال؟ كثيراً ما تساءل عن هذا الحال فلم يجد جواباً، حينما نسأل آباءنا أو أمهاتنا، وهناك أخي الذي يكبرني يقفز ليُجِيبني، لم يجد كل هذه الأشياء، فالرصيف هو الأب والأم والأخ، وذلك السرير القاسي الذي يكوِّن عوده ليكبر مع قساوة البشر.

يكبر مع مُضي الأيام التي مرَّت عليه ببطء شديد قاسية بكل فصولها، فلا يزال يذكر حرارة الصيف التي تشوي جلده، وبرودة الأيام التي جمَّدته، فتنوُّع هذه الفصول معه رغم فائدتها فإنها قاسية عليه مرَّت، كبر ليكون في السادسة من عمره؛ ليجد نفسه يطرق الأبواب باباً خلف باب، أو أن يقف في الشارع وحيداً يطرق زجاج السيارات، عسى مِن متصدِّق عليه، بين العطف والنهر يعيش يومه؛ ليعود إلى داره أو قصره الكبير.

ذلك القصر الذي يضمه ويحتضنه؛ لينام رغيد البال، فهو ما زال لا يعرف شيئاً من الحياة، قصر من عيدان الصفصاف تكسوها بعض الأوراق؛ لتكون له حياة لا مثيل لها، رغم كثرة ما يحيط به من قصور شامخات، لم يعرف مِن قساوة البشر شيئاً، ولم يعرف لماذا هو يحتضن الرصيف؛ ليعيش سوء الأيام مع قِلَّة كل شيء يملكه، وحينما يحصل على الدرهم يسعد كحصوله على كنز، لم يفقه أنه يوماً كانت له دار كالتي تحيطه، وأب وأم وأخ ربما يكبره، لم يعرف، كان أبواه اللذان يوبِّخانه في الشارع وإخوته وأقرانه الذين يفترشون الرصيف مثله.

كَبِرَ وكَبِرَ، حتى بدأ يفكر؛ ليعرف أن مكانه ليس هنا، فمكانه هناك؛ حيث المدرسة، يرتقب جرسَ انتهاء الدرس ليخرج مرحاً يلعب، مكانه ذلك البيت الذي ينتمي إليه، يحتضن وسادته التي لم يعرفها، والألعاب والدُّمى تحيط به، وأب يعود في المساء يحتضنه، وأُم تعد له الطعام توبِّخه حيناً وتُعلمه حيناً آخر، وتبكي لمرضه، لم يعرف كل هذه الأشياء التي نعرفها ويعرفها الآخرون، مجرد أنه كِبَرَ وعرف أنه أصبح من عالم قاسٍ؛ لينضم إلى هذا العالم الكبير.

حينها بدأ يتغير ليقسو على نفسه، أو على مَن يصغره، يتمنى الأشياء ويعمل لتحقيق بعضها، مهما كانت طريقة فعلها، فلا أب علَّمه، ولا أُم يعرفها، ولم يجد دولة تكون له أباً وأُماً، وحينما يفعل أو يتحقق حلمه، أو يكون خلف قضبان تلفّه؛ ليعلن لعنته على الأشياء كلها، وقتها فقط يفقه لو كان له دولة أو أرض غير ذلك الرصيف المؤلم يحتضنه.

أمانٍ بسيطة تمنَّاها في كبره، لكن يا لَقسوة هذه الأشياء! فالأحلام تتلاشى أمامه، والأماني تصدمه كثيراً، كانت هناك أمنية معلَّقة في عقله لم تسقط أو تتلاشى، كان يرسمها في سمائه؛ لتكبر معه: "لو كان لي وطن"، أمنية يتيمة كيُتمه.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد