الدكتور العتوم والرواية التاريخية

هكذا كانت رواية خاوية تأخذ من بضعي وبعضي، وتستنزفُ كلَّ جهدي، بشكل أو بأخر لم أكن -كقارئ- أوافق على حضور هذه الأحداث بالصورة المؤلمة تلك، لكنه وفي الوقتِ ذاته تسلل إلى خلدي أن أسوأ مما كتب قد حصل، وأقسى شعورٍ وصلتُ إليه هو لا شيء أمامَ القهرِ الحقيقي الذي تعرضتْ له شخوصُ الروايا -بصورة ضيقة-، وما تعرض له الناس في أحياء سوريا ومناطق الاقتتال.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/22 الساعة 07:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/22 الساعة 07:29 بتوقيت غرينتش

في كل مرة تجبرني الأحداث على الاعتراف بأنَّ جُلَّ ما أعرفه ضئيلٌ جداً، وغير قابل للقياس البتة، في أول تنقيبي عمّا يكتبهُ الدكتور أيمن العتوم رأيتُ ذاكَ الكمَّ الذاخرَ الذي ينتجه عبر دواته، وفاتني أنْ أرى -لقصر نظري- الفحوى الذي يقدمه وعظمته، وكان قولي له عندما رأيته:
"أمهلني قليلاً لألحق بركبكَ، أرحْ قارئكَ يا سيدي، فالكم والتواتر الشديد في إنتاج الأعمالِ الروائيةِ لا يسعهُ تقديم المساحة المطلوبة لي كقارئ، لأخرجَ من وهلة الصفحات للرواية التي أقرأ، وأنتقل بعد هدوئي إلى الصفحات الأخرى للرواية التالية، فالتتابع والكم رهيب ومتعب لي كقارئ".

أجابني وقتها: "أن العمر لا ينتظر وكيف يسعني أن أنتظره وفي ذهني الكثير من العمل الذي عليّ أن أقدمه عبر صفحات".
أنهيتها، قبلَ أن تنهيني، تواترتْ بين صفحاتها كل المشاعرِ بالحضور، أشدها القهر، وصورته البكاءُ، وتصاعدتْ في مخيلتي كل الشخوصِ والتوقعات، كل الأحداثِ وترتيبات الرواية، حتى وددتُ استبدالها ومجاراة ألمها بفرحٍ وسعادةٍ أرسمها على الأقل في مخيلتي.

هكذا كانت رواية خاوية تأخذ من بضعي وبعضي، وتستنزفُ كلَّ جهدي، بشكل أو بأخر لم أكن -كقارئ- أوافق على حضور هذه الأحداث بالصورة المؤلمة تلك، لكنه وفي الوقتِ ذاته تسلل إلى خلدي أن أسوأ مما كتب قد حصل، وأقسى شعورٍ وصلتُ إليه هو لا شيء أمامَ القهرِ الحقيقي الذي تعرضتْ له شخوصُ الروايا -بصورة ضيقة-، وما تعرض له الناس في أحياء سوريا ومناطق الاقتتال.

وأرى أنَّ في خاوية وقفات عديدة يجب أن نتدارسها وأن نسعى للإمعان في إثمارها ووعيها، وهناكَ محطات يجب مناقشتها لزيادة مستوى الوعي بها، ولا يسعني هنا إلا أن أذكر النزر اليسير ليهدأ جُزءٌ صغير مما في داخلي:
– سؤالي الأول كم احتاجَ الكاتب ليقرأ ويبحث ويتقصى عن مرض التوحد ليستطيعَ إتقانَ حرفية الكتابة كمتخصص بهذا المرض في صفحاته المائة والخمسين الأولى، وفي منتصف الرواية رأيت أن هذا الجزء أو الفصل كان إضافة ترفيه للرواية، وفي نهايتها رأيتُ الرابط الذي أوجب حضورهُ، وإن كان الرابط غير واضح المعنى لوجوب هذا الحضور، لكن الكاتب كان مصراً على أن ينسجَ التفاؤل والأمل على الرغم من كامل هذه الصورة الموجعة منذ الصفحات الأولى للرواية.

– أما زياد في الرواية فلم يكن شخصية متمثلة بفرد أو فكرة فقط بل كان عدة شخوص، وجملة من الأفكار المقتبسة من واقع الوجع السوري ومن جملة التوجهات التي انبثقت عن تحليل الأحداث ووعي الألم، أوجعني انتحاره لكن في النهاية أقررتُ بأن خياراته تحددت مع هذا الكم الرهيب من القهر الذي عشعش في روحه.

– وعن العبارة التي خطها الكاتب في فصول الرواية الأخيرة: "لا تنبتُ الأرض إلا إن كانت خاوية"، فإن الصورة المُتخيلة منها لا يمكن وصفها، ولا يمكن نسخها في جنبات دمشق ومحافظاتها الثلاث عشرة، على الرغم من أن بضعة أجزاء ليست بالقليلة من بعض المدن الكبرى في سوريا تعرضت لهذا الخواء.

– أما عن نهايات الأحداث فأكثر ما شدني العبارة في السطر الأخير من الرواية؛ حيث قال فيها الكاتب: "لا شيء يمكن أن يحول الإبداع إلى فن حقيقي مثل المأساة" دفعتني العبارة إلى أقاصي الروح لأعارض فصولها ومطالبها، فنحن لسنا بحاجة للمأساة أو الألم بقدر ما نحتاج من حب لكي نبدع ونصدح بالفن.

وفي كلِّ مرةٍ يسبقنا الكاتبُ أيمن العتوم ألف خطوة أو يزيد، منذ عام بالتمام أتم روايته خاوية وحملَ إتمامها التاريخ 12-08-2017 وأنا الآن وبذات التاريخ أنجز قراءتها؛ لأنني لم أستطع أن أقربها حتى أفرغتُ جوفي وخلدي من روايته السابقة "كلمة الله"، وهو الآن ينجز روايةً جديدة تحت عنوان "اسمه أحمد"، ولا أعلم كم سأمكثُ حتى أعود لقراءتها، وأظن أنني لن أفرغ من رواية خاوية حتى ألدغَ صفحاتي بقصص عديدة أو روايةٍ صغيرة تجاري كل الشعور والمشاعر التي توالدت في داخلي.

الآن وبعد إصدار روايته "اسمه أحمد" أيقنتُ قصر نظري وعجزي عن فهم رسالته منذ البداية، ليس الفكرة أو المحتوى هو المهم وحسب، بل هناكَ تاريخٌ يكد الدكتور على توثيقه بكل ما آتاه الله من قوة؛ لينقل التاريخ القريب منه، أو المُعاش من قبله في صفحاته، دونَ لبس، وقبل أن يأتي تجار التاريخ ويحرفونه كما يشاءون ويبتغون.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد