دخل أحد ضباط الجيش السوري إلى غرفته الصغيرة المجاورة للحاجز الذي يترأسه، وهو يتحسس ملمس الأوراق المالية التي كانت من نصيبه في ذلك اليوم، مردداً عبارة "لولا خوفي من أجهزة الأمن والمخابرات لوضعت صورةً للعرعور في صدر منزلي"، قال تلك الكلمات همساً لضابط آخر كان يتقاسم معه العائدات المادية التي يتم جمعها من خلال بيع الممتلكات المصادرة وفرض الإتاوات على السيارات والمدنيين الذين يعبرون الحاجز، سمع هذا الحديث مصادفةً صف ضابط ونقله لي بعد انشقاقه عن جيش النظام والتحاقه بصفوف الثوار.
ذلك الضابط الذي يؤدي خدمته على أحد الحواجز المحيطة بمدينة حمص يبدو متباهياً بما أصبح عليه اليوم، فخلال سنوات قليلة ارتقى من مجرد ضابط يقتات على سرقة ما تيسر له من قسائم البنزين، وتفييش بعض المجندين، وراتبه الشهري الزهيد، إلى مرتبة أصحاب رؤوس الأموال والشركات والسيارات الفاخرة.
هذا الضابط يعتبر نموذجاً لآلاف الضباط الذين تربوا وترعرعوا وتعلموا أصول الفساد في أكاديمية الأسد للنهب والسرقة والتعفيش، هؤلاء لا يريدون للحرب أن تضع أوزارها، فالأموال التي يجنونها خلال يوم واحد لم يتخيلوا أن يحصلوا عليها خلال عام بأكمله قبل اندلاع الثورة، أما بعد اندلاعها وتوزيعهم على الحواجز، باتت مواردهم ومصادر رزقهم متعددة، كالتعفيش (سرقة ممتلكات المواطنين بعد تهجيرهم)، وفرض مبالغ مالية ضخمة على إدخال القليل من المواد الغذائية إلى المناطق المحاصرة.. هذا ما دعاهم حقاً لتمجيد العرعور سراً، فالعرعور بنظرهم يعتبر من أبرز أسباب اندلاع الحراك الثوري في سوريا.
ليس غريباً أيضاً أن نسمع أن أبناء الطائفة العلوية من المنتمين إلى ميليشيا ما يسمى الدفاع الوطني (إحدى الأذرع العسكرية لنظام الأسد) كانوا يدفعون مبالغ مالية ضخمة، ويتناحرون فيما بينهم من أجل الحصول على نوبة حرس واحدة على أحد الحواجز المطلة على أحياء حمص القديمة أثناء الحصار الذي دام قرابة 700 يوم، وهذا ما يُفسر سخط الشبيحة من نظامهم بعد إبرام اتفاق بين فصائل المعارضة من جهة، والإيرانيين من جهة أخرى، خرجت بموجبه فصائل المعارضة إلى ريف حمص الشمالي؛ لينقطع بذلك أحد أهم أبواب رزقهم بعد أن كانوا يحصلون على مبالغ خيالية لقاء إدخال بعض المواد الغذائية وعلب الدخان إلى الأحياء المحاصرة؛ إذ وصل سعر كيلو التبغ العربي الواحد داخل الحصار إلى ما يقارب الثلاثة ملايين ليرة سورية آنذاك.
كذلك لا بدّ من التذكير بظاهرة (سوق السّنّة)، تلك الظاهرة الطائفية التي شكلت جرحاً عميقاً في ذاكرة الكثير من السوريين المهجّرين؛ إذ يقوم كبار ضباط الجيش بالتنسيق مع بعض التجار من أجل تصريف ما تمت سرقته من بيوت المدنيين بعد هروبهم من القصف، حيث تُعرض الأدوات الكهربائية والملابس والمفروشات المسروقة من بيوت السّنّة المهجّرين على أحد الأرصفة؛ ليتم بيعها مجاهرةً بأسعار زهيدة وتحت مسمى (سوق السّنّة).
من الواضح أن معظم ضباط جيش الأسد وشبيحته ينظرون إلى المناطق المحاصرة على أنها الدجاجة التي تبيض ذهباً لهم، متجاهلين حجم معاناة المحاصرين من أبناء شعبهم، وحجم ما يتعرضون له من همجية ووحشية وتجويع واستغلال على أيديهم وأيدي نظامهم، وربما سيكون ممكناً لنظام الأسد ومؤيديه في الأيام القادمة أن يواصلوا تعبيرهم عن مدى انحطاطهم ودناءتهم، وأن يستمروا في سرقة ونهب ممتلكات وأموال المهجّرين والمحاصرين، لكنهم لن يستطيعوا أبداً نهب ذاكرة أجيال قادمة ستقرأ عليهم وتعلمهم الدروس المستفادة من (قصة الدجاجة التي تبيض ذهباً) تلك الحكاية الأسطورية التي تلامس واقعنا مجازياً، وتهدف إلى تنبيهنا وتحذيرنا من مغبة الجشع والطّمع الذي يضرّ ولا ينفع.
فكم من دجاجة تبيض ذهباً ذبحها شيطان الطمع والجشع الطائفي المقيت، من أجل حفنة من المال يتم جمعها على حساب دماء الأبرياء، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من اختلاف وفرقة وتشرذم، حتى أصبح الجرح غائراً يصعُب جداً أن يبرأ أو يندمل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.