الموسيقى هي عزف روح يلامس روحاً، وهي لغة تواصل فريدة بين الأرواح، حين تجد نفسك تستمتع بالاستماع لعدد من الألحان والمعزوفات الموسيقية لثقافات مختلفة، فذلك لأن الموسيقى هي روح الحضارات والكلمات حياتها، كما أن الناس لا تنسجم إلا مع لحونها، وأي أمة لا لحن لديها لا تاريخ لها، فالموسيقى هي اللغة الفريدة الناطقة لثقافات الأمم وحضاراتها على مر التاريخ، وهي أقصر طريق لفهم ماهية حياة أمة وكيف كانوا، ومن هم في التاريخ.
حين تتشارك الكلمات الموسيقى، لتصبح رقصات تتناقلها الأجساد، فهذا لأن الموسيقى هي الروح الناقلة.
في حياة كل أحد منا هناك أغنية، وموسيقى يلجأ إليها حين فرحته ولحظة نشوة انتصار، كما أن كل عثرة ومع كل حزن، هناك موسيقى تواسي، وفي كل تحد يواجهه أحدنا فإنه لن يجد أفضل من الموسيقى محفزا له للإنجاز. إن النفس التي في الجسد إنما هي موسيقى عظيمة، لولاها لما عرف الجسد الغناء ولا للرقص أجاد!
الموسيقى هي غذاء الروح وشفاؤه، وبها تسبح الروح في فضاءات الكون، وبها تسمو وتشدو وترقص طرباً وشوقاً وحباً ووفاءً وحماساً، الموسيقى لا تنفك عن الروح البشرية، ولا يترك أحد الاستماع للموسيقى إلا وكانت روحه خاوية من السلام والحب وروحانية الرب.
الموسيقى هي تربية للنفس، وسمو للروح، وسلامة للعقل.
في كتابه العظيم "غريزة الموسيقى"
The Music Instinct, by Philip Ball
والمنشور عام 2010 ويعد من أحدث الكتب التي تحدثت عن الموسيقى كتقنية عملية وكفلسفة فطرية بشرية، خاصة أن مؤلفه فيليب بول هو بالأصل فيزيائي وله جهده الفلسفي العميق في كثير من جوانب الحياة البشرية الفيزيائية، وعدة مؤلفات حققت العديد من الصدى الإيحابي في الأوساط العلمية.
يتساءل فيليب بول: من هو المؤلف الموسيقي المفضل: موتسارت، بيتهوفن أم باخ؟، ولم يكتف فيليب بهذا التساؤل في كتابه ليبحث إجابته، بل تضمن أيضاً رصداً تاريخياً رائعاً للموسيقى وأهميتها، ولماذا تتفاعل معها أرواحنا، وتنشد لها عقولنا، وربما تقود البعض منا للتفاعل مع الموسيقى وبها إلى حد الجنون.
يطرح فيليب أيضاً في كتابه "غريزة الموسيقى" طبيعة الفهم الموسيقي كما يراها بأنها أكثر سهولة وأبسط من كل التعقيدات الأكاديمية الموسيقية. وضرب مثلاً لذلك، بالطفل حين يردد أنشودة تقليدية توارثها الأجيال مع أطفالهم، وكيف أن الطفل قد يرددها كلمة ولحنا في يومه عدة مرات، وبالرغم من ذلك فإنك حين تستمع لصوت الطفل يرددها فإن عقلك يتتبع لحنها ونمطه، وفي عمل مدهش يحاول عقلك التنبؤ بمآل لحن أنشودة الطفل وماذا سيكون الانتقال القادم كاستجابة طبيعية من العقل إلى الجرس الموسيقي الذي يصدره صوت الطفل.
كما أن فيليب ذكر في نفس الكتاب أن العقل قادر على التفاعل مع الموسيقى وفهمها وتحليلها دون الحاجة إلى تفسير مسبق، مؤكداً ذلك بأن الموسيقى جزء حيوي أساسي في الثقافة الإنسانية وفطرتها. ذاكراً بأن الإنسانية عبر التاريخ عرفت مجتمعات لا تكتب ولا تمتلك فنوناً بصرياً، لكن وفي نفس الوقت لم تعرف البشرية مجتمعاً أو ثقافة على مر التاريخ دون أن يكون لديها طرق ولحن موسيقي خاص بها.
كتاب "غريزة الموسيقى" اشتمل أيضاً على شروح مباشرة ومبسطة لكل الجوانب التقنية لعمل الموسيقى، النغمة الموسيقية وكذلك السلالم الموسيقية، ولم يكتف بشرح عملية ذلك تقنياً فحسب، بل طرح إمكانية أن تكون الموسيقى وحدها دون كلمات، لغة تواصل بشرية كافية ووافية وبديعة للتفاهم والتعاطي بين الناس.
كما تضمن الكتاب أيضاً شرحاً علمياً فيزيائياً وعملياً لكيفية تعاطي الدماغ البشري وتفاعله مع الموسيقى، وكيف أن الألحان الموسيقية أياً كانت تعمل على تحفيز الدماغ لإصدار الأوامر العصبية لإشعال الوظائف الحركية، والذي يفسر لماذا تعمل الموسيقى على تحفيز الرياضيين في مواصلة تمارينهم دون ملل أو كلل.
إلا أن فيليب لا يفترض أبداً أنه يمكن اختزال الموسيقى في معادلة علمية محددة، فالموسيقى كما يقول:
"ليست مجرد صندوق أسود تخرج منه نوتات خامة تغذي الدموع والفرح لدينا".
في كتاب "غريزة الموسيقى"، حرص فيليب طوال صفحات الكتاب، قرابة الثلاثمائة صفحة، على التأكيد أن الموسيقى ما هي إلا جزء من الفوضى البشرية الحيوية نفسها ولها انتظامها الدائم، فكما يقول فيليب:
"البشر قادرون على تمييز الموسيقى في تغريد العصافير، وضوضاء المرور، وهمهة أجهزة الحاسوب، وبالتالي نحن لا نحتاج إلى قرص موتسارت للأطفال" لنحصل على عقول موسيقية"
ولعل من المناسب ذكره هنا أن التراث العربي والإسلامي على مر التاريخ قد حفل بكثير من التعاطي مع الموسيقى في شكلها العملي والتقني وفي فلسفتها وتفسيراتها المرتبطة بالكون ومنطلقها من الفطرة البشرية. فقد كان الكثير من المفكرين والعلماء العرب والمسلمين لهم اهتمام بالغ بالموسيقى وبيان أثرها الإيجابي على تربية النفس، وسمو الروح وسلامة العقل. فقد كانوا شديدي الاهتمام بالموسيقى وعرض فوائدها. فالفيلسوف المسلم الفارابي، له مخطوط ضخم عن علم الموسيقى باسم "كتاب الموسيقى الكبير"، والعالم المسلم ابن سينا، له الكثير من الكتابات عن الموسيقى، بل وقام بتأليف العديد من القطع الموسيقية بنفسه، وعالم الكيمياء جابر بن حيان، أيضا كانت له مؤلفات عن الموسيقى، وأبو بكر الرازي الملقب بأبي الطب العربي، كانت له مؤلفات عن فوائد الموسيقى المتعددة وأثرها في علاج الأمراض وتخفيف الآلام، والأديب والمؤرخ المسلم أبو الفرج الأصفهاني، كتب "كتاب الأغاني" في 12 مجلداً، والعالم الفيزيائي والفلكي والفيلسوف الشهير يعقوب بن إسحاق الكندي يعتبر أول واضع لسلم الموسيقى العربية، وابن رشد وغيرهم ممن أثروا الحديث عن فوائد الموسيقى وأثرها في تقويم الحس الذوقي والسلوكي للنفس البشرية.
ومن ذلك كله فالموسيقى في أصلها ما هي إلا سلوك بشري حيوي أصيل، لم يكن في يوم من الأيام سلوكاً طارئاً أو شاذاً على الفطرة البشرية، بل هو جزء أساسي من تكوينها الحيوي والنفسي والعصبي، وبالتالي كان لزاماً الاهتمام بها وبتشكيلها السليم في داخل النشء والأطفال، بدلاً من تشويهها وكنتيجة لذلك تشويه للفطرة البشرية ذوقاً وسلوكاً وفكراً.
إن المتابع اليوم لحالة الشد والجذب التي تشهدها المجالس الفقهية الإسلامية على مر العقود الماضية في مسألة الموسيقى وهل هي حرام أم حلال. وهل الموسيقى باب شر لابد من إغلاقه بل وربما إلغائه تماماً من الوجود في سلوك بائس تماماً ضد الفطرة البشرية وحيويتها، ليقف متعجباً من حالة البؤس التي تغلب على السلوك البشري تجاه ذاته وفطرته. وما هذا الشد والجذب إلا سلوك خارج عن الفطرة، فلكل حالة وجودية في هذا الكون جرسها الموسيقي الخاص به. فمشاعر الخوف والحزن والخطر وكذلك مشاعر الأمن والفرح والاطمئنان كل ذلك له موسيقاه الوجودية التي تميزه عن غيره وتحدث في النفس البشرية ما تحدثه من سلوك وفكر يتناغم تماما مع كل جرس موسيقي يتلقاه العقل البشري ويتعاطى به في تقنية وانسجام بديع لم يخلقه الله عبثاً.
لقد كان من الأولى بالعقلاء، بدلاً من متابعة حالة الشد والجذب حول الموسيقى والوقوف حائرين في منتصف الحياة، أن يعملوا على السمو بالموسيقى وتطوير معانيها السامية في نفوس الأبناء. وتربية الحس الذوقي والتقني والسلوكي تجاهها في نفوس النشء، والتعاطي بالموسيقى وجعلها كما هي بالأصل مفردة الفطرة البشرية ولغة التواصل الروحية والروحانية مع الكون في كل تفاصيله وشؤونه.
فما نحن في المحصلة إلا جزء من موسيقى الحياة، موسيقى الكون. نحن موسيقيون بالفطرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.