إن المستقرئ لتاريخ الثورات عبر القرون يلحظ أن بها لازمة لا تنفك عنها، ألا وهي عبورها الحدود الشاسعة، لا سيما للبلدان المجاورة لها. فتنتقل من قطر إلى قطر مجاور لها كما الطاعون، أو كالنار في الهشيم.
فعندما قامت الثورة في فرنسا عام 1789 ما لبث مبادئها أن استشرت بجارتها بريطانيا وفي أوروبا كلها. وما إن بدأ الربيع العربي ونجح بتونس، في ديسمبر/كانون الأول 2010، إلا واشتعل في مصر، ثم ليبيا، ثم اليمن، ثم سوريا التي لم تكن قد نضجت أجواؤها للثورة بعد، فكان ما كان، بل وما زال.
ولكن الأعجب فيما نحن بصدده من تجربة راهنة أن عدوى الثورة انتقلت من بيئة ديمقراطية، اقتصادها ليس بالفقير، إلى بيئة مستبدة اقتصادها فقير، جد فقير، يمسك بزمامها نظام ديكتاتوري عقيم.
يعلم الجميع ما قام به ذوو السترات الصفراء في فرنسا، إزاء قرار الحكومة رفع أسعار الوقود، وزيادة الضرائب. ويعلم الجميع كيف تراجع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واعتذر للشعب بعد أن كان مصراً على هذه الزيادة، بل شكر قوات الشرطة إزاء ما أبلته من بلاء حسن من مقاومة المتظاهرين.
الأعجب أنهم لم يقنعوا بذلك فيعودون إلى بيوتهم، بل زادوا سقف مطالبهم، فلم يغادروا الشارع وظلوا صامدين في انتفاضتهم.
كانت قومة ذوي السترات الصفراء زلزالاً وصلت ارتداداته إلى بلجيكا وهولندا، بل وإسبانيا، فخرجت مسيرات صاخبة في هذه البلدان على شاكلة هذا الزلزال الأصفر، وقد تنوعت مطالبهم بين ضغط المعيشة وقوانين الهجرة.
حتى هذا الحد، ليس ثمة ما يدهش أو لا يعقل، أما العجب العجاب فهو أن دوائر ارتداد هذا الزلزال تتسع وتتسع حتى وصلت إلى الشرق الأوسط. فوصلت إلى السودان وتونس والأردن، حتى ظهرت لها بوادر هناك في المغرب بمباراة لكرة القدم.
ففي الـ19 من ديسمبر/كانون الأول 2018 بالسودان، بدأ حراك وانتفاضة قوية من ولاية عطبرة وبورتسودان. ثم ما لبث الحراك أن استشرى في 18 ولاية، حتى وصل إلى الخرطوم، ولم يفصل بين المتظاهرين والقصر الرئاسي سوى بضعة كيلومترات.
بدأ الحراك عفوياً لا رأس له. فما كان من القوى السياسية المعارضة إلا أن أيدته وسارت في ركابه. ويبدو أن شعب السودان المسكين الذي يئنّ تحت وطأة الفقر والغلاء قد خرج إلى الشارع ولن يرجع حتى يبلغ مأربه من هذا النظام المستبد الفاشل، الذي ما برح يروج -كعادة المستبدين حين يتم حصارهم- أن المتظاهرين مرتزقة ومدسوسون.
وتعجب أن يفشل نظام جاثم على صدر بلد طوال 30 سنة، في النهوض به وهو يملك من الثروة الطبيعية ما لا يملكه غيره. فكثيراً ما يوصف السودان بأنه "سلة غذاء العالم العربي"، يمتلك ما يربو على 103 آلاف رأس من الماشية، وأرضاً زراعية هي الأخصب والأعظم مساحة في إفريقيا وآسيا قاطبة تصل 84 هكتاراً، المنزرع منها لا يتعدى 18 هكتاراً، ويتمتع بموارد مائية هائلة خالية من العوائق، تتمثل في نهر النيل، ويغطي الذهب والفضة والنحاس والمنجنيز أكثر من 46% من مساحته، وينتج أكثر من طن من الذهب في العام الواحد، وثروته السمكية تصل إلى 100 ألف طن. ثم بعد هذا كله يكابد شعبه الفقر والغلاء! حتى وقت كتابة هذه السطور يتصاعد زخم هذا الحراك الثوري، وكان لولاية سونار النصيب الأوفى منه في خاتمة هذا العام المنصرم.
وكلما زاد هذا الزخم زاد القلق والريبة لدى النظام في جارته مصر. وكأني برأس النظام في مصر وأعوانه وقد دب الرعب في قلوبهم، تدور أعينهم من الخوف كالذي يُغشى عليه من الموت جراء هذه الثورة المتنامية، فبادر النظام بإرسال وزير خارجيته سامح شكري وعباس كامل رئيس المخابرات العامة، بحجة حضور الاجتماع الرباعي الدوري. ولا ينطلي على غرٍّ ما، أنهما ما ذهبا إلا ليتحسسا الأمر، ويبذلا النصح والمشورة، بل ويعرضا المساعدة اللوجيستية لجار طالما احتقروه، ولم يحسبوا له أي حساب.
وإذا ما أمعنا النظر تجد أن هذه البلية ما نزلت بالنظام في السودان إلا عقب زيارة الرجل لبشار، الذي قتل من شعبه ما يربو على 100 ألف نفْس من المدنيين، وشرد ما يقرب من 12 مليوناً بين لاجئ ونازح. وأنت في حاجة إلى قدر عظيم من السذاجة والبلاهة حتى تقنع بأن قرار الزيارة قد جاء من تلقاء نفسه وليس بضغط أو وحي من أي طرف كان كالسعودية أو الإمارات العربية، وأسهم فيها الرئيس بوتين بطائرة شحن تقل الرجل إلى دمشق.
فلا ريب أن الرجل هان على شعبه وسقط من نظرهم، فاجترأوا عليه، فهبّوا هبتهم تلك، التي أرجح أن تكون القاصمة… نعم لن يخرج البشير من هذا الحراك الثوري سليماً معافى. وقد أسلفت أن الشعب السوداني بجميع طوائفه لن يترك الشارع حتى يبلغ هذا الحراك مأربه فيزيح البشير، هذه واحدة. أما الثانية، فإن هذا الحراك إذا ما بلغ غايته، فلا شك في أن دوائر تداعيات هذا الزلزال ستتسع حتى تصل إلى مصر، وأنه سيتولد على شاكلته حراك يثور فيه الشعب على الفقر والغلاء، يزأر فيه ضد الفساد والقهر والاستبداد.
فإذا ما صدق هذا الحدس، فإن الأمر سيكون على شيء من الاختلاف. فلربما قد أحكم كلاهما قبضته على الجيش والشرطة والقضاء والإعلام. فقبضة النظام في السودان ليست كما هي في مصر، ففي مصر هي أشد عنفاً وضراوة… وسيسيل من الدماء بمصر أكثر مما سال وسيسيل في السودان، بل ربما ينحو الحراك في السودان إلى منحى سالم، يتوصل فيه إلى مَخرج آمن.
ففي السودان يوجد الحد الأدنى مما يمكن أن يطلق عليه "معارضة". أما بمصر، فالمعارضة كما يطلق عليها الساسة والصحفيون "كرتونية" رمزية، وجودها كالعدم، والعدم أفضل من حيث إنها صنيعة النظام، تدعمه من حيث تنتقده. فدعا تحالف للأحزاب السياسية لإنشاء مجلس انتقالي يقود البلاد إلى بر الأمان، واقترحت الجبهة الوطنية للتغيير تشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات تسيّر أمور البلاد إلى أن تنتهي فترة حكم البشير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.