ليست كل شئ

متى نحفز أبنائنا حتى وإن فشلوا في أعيننا، فلربما بالتشجيع يجد ما قد يجعله شخصية ناجحة كالكثيرين، متى نكف عن إرغام الطفل على خياراتنا الشخصية

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/29 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/29 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش

النمطية، التكرار، المحاكاة، التقليد، كلها سمات هذا العصر، الابتكار والاختراع نادر، ويقابل بالسخرية أحيانًا، والتجاهل في أحايين أخرى؛ لأننا ترعرعنا في بيئة نمطية، الإبداع فيها متجاهل، والفشل والنجاح تحدده شهادة لا يذكر صاحبها ما فيها، أو امتحان يخيف أكثر مما يمهد لطريق التعلم والتميز، ولمادة تم تلقينها بأسوأ طريقة متاحة، وأسوأ بيئة تعليمية ربما، وأضعف طريقة تقييم.

للأسف نحن في المشرق العربي نحسب كل من لا يملك شهادة أو مؤهلًا دراسيًا شخصًا فاشلًا، بل ونحاربه ونقف في طريقه، ونرى أن كل متعلم هو إنسان يجب أن يحترم، وكل شخص ذو تعليم متدني شخص حقير لا يجب أن يرفع له مقدار أو تحية، بينما في الأصل ليس الهدف التحصيل الدراسي والشهادات التي تملأ باب الثلاجات أو براويز غرف الضيوف. إنما بما يقدمه الفرد للمجتمع من فائدة، إبداع أو حتى تغيير.

لست هنا أحارب التعليم النظامي، بل بالعكس هو باب من أبواب تطور الأمم جمعا، ففي السابق كان الفرد هو من يبحث عن التعليم والحرفة والثقافة، وبات الآن الفرد مرغما على مستوى محدد من التعليم، يضمن له أن يواكب مستوى أقرانه العلمي؛ لكن أحارب النمطية في هذا النظام، فهو يطمس الهوايات، والمواهب، والقدرات خصوصًا في المؤسسات التي لا ترعى أو تراعي خلفيات الطلبة وتأخذ بيدهم للوصول للب ما في كف كل فرد منهم من قدرات أقرب لأن تكون خارقة، فكم من قبرٍ حمل موهبة كان لها أن تصنع انموذجًا إبداعيا لا قرين له في مجالٍ ما، وكم من فكرة وئدت في رحم عقل طفل، زجره معلم لأنه كان يفكر خارج الصندوق. وصدقني كثير من الصناديق التي باتت مغلقة، تحمل بداخلها كون آخر من الفكر والمواهب والآراء، ولكن لم يراد لتلك الصناديق أن تفتح لأننا نعشق الاستنساخ البشري.

مايكل شينبلم شاب أمريكي ترك الدراسة في مراحله الأولى، لم يكن يستطيع مواصلة التعليم، بالكاد أكمل سنته الخامسة، وبعد محاولات عديدة لحثه على الدراسة أكتشف والداه أنه يعاني من عسر تعلم، لم يكن ذلك ختام حياته ووجوده وطموحه، بل ولم تخب آمال أهله به، إنما تناول آلة التصوير التي كان يعشقها والتي اشتراها له والده، وأخذ يأخذ اللقطة تلو اللقطة، وهكذا أكتشف هو نفسه، و أصبح مايكل من أكبر المصورين في العالم، حيث تستخدم أعماله من قبل شركة أدوبي، وصحف ومجلات ومواقع عديدة، بل واستخدمت في تغريدات وخواطر بدون علم من وضعها بحقيقة صاحبها وهويته.
الإبداع لا يموت بالفشل في الدراسة، بل بالعكس ربما يحيا أو يستيقظ من سباته، إنما يموت بالتعليم التلقيني والحفظي الخاوي من أي تحريك للشغف والمرح والتحدي. يقول آينشتاين: لا تحفظ أشياء يمكنك أن تجدها في الكتب. والتعليم جعل أهم مهارة للطالب هي الحفظ، وأي نوع، الحفظ الامتحاني، أحفظ لتنجح، لا لتحمل تلك المعلومة معك للغد.

في أحد السنوات قال لي دكتور اللغة الفرنسية بالجامعة حين قررت الانسحاب من مادته لعدم قدرتي على التركيز في المادة، وبكل سخرية: شوفلك شيء حرفة اتعلمها. كان في باله أن يعدم مشواري الأكاديمي دون أن يتسائل عن الأسباب التي دعتني لعدم القدرة على التركيز، بل وقابل ذلك بسخرية، وأشعرني حديثه أن الحرفة هي نهاية كل من يفشل أكاديميًا، على الرغم من أن الكثير من الشخصيات الناجحة اتخذت حرفة وبرعت فيها بعيدة عن كل شهاداتها، فكم من طبيب امتهن الكتابة، وكم من حامل لماجيستير عمل في مجال التصميم والإذاعة، وكم ممن أكمل دراسته الجامعية عمل كرسام، كميكانيكي سيارات، أو حتى كنحات. الحرفة ليست منتهى الفاشلين، بل ملاذ المبدعين والموهوبين وكذلك الأكاديميين ذوي الشهادات العليا. إلا من رحم ربي.

متى نحفز أبنائنا حتى وإن فشلوا في أعيننا، فلربما بالتشجيع يجد ما قد يجعله شخصية ناجحة كالكثيرين، متى نكف عن إرغام الطفل على خياراتنا الشخصية، أدرس المجال الفلاني، لأنني فشلت في أن أصل إليه، أو لأنني أريد أن يقول الناس ابن فلان، متى نكف عن قتل تلك المواهب، عن اغتيال كل ذلك الشغف وكل تلك الأسئلة، متى نرتقي بتعليمٍ يؤهل أبنائنا لمستقبل غير مستنسخ من الماضي، بتعليم يضمن أن تنجب المدارس مواهب وقدرات ومهارات لم تكن حتى في أسلافنا، متى فالأمم قد سبقت بعضها ونحن لا زلنا نمشي الهويدا. فعلى هذا الشكل لن تصل سلحفاؤنا إلى خط النهاية أبدا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد