عندما يتحدث الملك لغة المواطن

منذ زمن طويل ساد في الأوساط المهتمة بدراسة الأنظمة السلطوية القول بأنه من العوامل المهمة التي تعتمد عليها هذه الدول بشكل أساسي من أجل ضمان استقرارها تتعلق بالكيفية التي يدمج فيها النظام النخب والأحزاب وباقي المؤسسات في اللعبة السياسية، وكيف يستقطبها داخل الإطار المؤسساتي، هذا الاستقطاب يتم من خلال منح الامتيازات (الريعية) بمختلف أشكالها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/16 الساعة 03:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/16 الساعة 03:50 بتوقيت غرينتش

تعددت القراءات (لا يهمنا هنا القراءات من قبيل الخطاب التاريخي وغير المسبوق والقوي) للخطاب الملكي الأخير يوم 29 يوليو/تموز بمناسبة عيد العرش، وتعددت معها التأويلات بخصوص اللغة المستعملة ذات المنحى الجديد في تفاعل رئيس الدولة المغربية مع مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية التي يعرفها المغرب في الفترة الأخيرة، سواء تعلق الأمر بتبعات الحركة الاحتجاجية في الريف وتبعاتها على استقرار النظام السلطوي (والتي أشار إليها الملك ولو بشكل غير مباشر)، وأيضاً تزايد الهشاشة الاجتماعية المرتبطة بالسياسات العمومية المتبعة، وازدياد حدة التفاوت الطبقي، وأيضاً التفاوت بين الجهات من حيث الاستفادة مما سمّاه الملك في خطبه بـ"النموذج الاقتصادي والتنموي الواعد".

سأحاول في هذا المقال المساهمة في فهم سياق المنحى الجديد التي ينهجه الملك في خطبه حين يعطي الانطباع عن طريقها بالتفاعل والتجارب مع إشارات عدم الرضا القادمة من المجتمع.

منذ زمن طويل ساد في الأوساط المهتمة بدراسة الأنظمة السلطوية القول بأنه من العوامل المهمة التي تعتمد عليها هذه الدول بشكل أساسي من أجل ضمان استقرارها تتعلق بالكيفية التي يدمج فيها النظام النخب والأحزاب وباقي المؤسسات في اللعبة السياسية، وكيف يستقطبها داخل الإطار المؤسساتي، هذا الاستقطاب يتم من خلال منح الامتيازات (الريعية) بمختلف أشكالها.

هذه المقاربة رغم أهميتها في شرح دينامية الأنظمة السلطوية فإنها تجاهلت عاملاً مهماً آخر في معادلة الاستقرار، ويتعلق الأمر هنا بتجاهل دور العلاقة (التواصل) بين الحاكم والمحكومين في ضمان استمرار الحكم غير الديمقراطي.

هذا الأمر فهمته بعض الأنظمة السلطوية وتستغله بذكاء من خلال التواصل المستمر مع المجتمع، في الحالة المغربية مثلاً يمكن تسطير دور الخطب والزيارات الملكية كجزء من هذا المسلسل التواصلي.

هذا السلوك التفاعلي يعكس قدرة التعلم لدى النظام بتكييف ردات فعله مع الواقع والاستعداد (ولو ظاهرياً) التخلّي على "سلطة القمع" والتعويل عوض ذلك على "سلطة الخطاب"، هذا السلوك التجاوبي غايته هي إعطاء الانطباع بتفاعل النظام الإيجابي مع المطالب المجتمعية وحالات عدم الرضا.

هذه الاستراتيجية أي الاعتماد على سلطة الخطاب هي ما تعكسه مختلف التأويلات القريبة من السلطة للخطاب الملكي، بأن الملك يفهم المواطن العادي، وأصبح يتحدث بلغته ويقول ما يقوله الناس في نقاشاتهم في الشوارع والمقاهي.

في هذا الخضم يحاول الملك تمرير الرسالة الأساسية بأن المشكل الأساسي من توالي الأزمات الاجتماعية والتفاوت الطبقي في المغرب هو غياب الحكامة في التدبير (يعني ليس له علاقة بغياب الديمقراطية)، وأيضاً أن المشكل في النخب السياسية والمؤسسات المنتخبة، لكن يتجاهل الأسباب التي أدت إلى إحداث هذا العطب في النخب، ولماذا أيضا أفرغت هذه المؤسسات من ماهيتها؟ كما يركز دائماً على نجاح الاختيارات التنموية التي ينتهجها النظام، وهذا لا يعني بطبيعة الحال نجاعة هذه الاختيارات على أرض الواقع؛ ليخلص إلى النتيجة المهمة التي تريد أن يوصلها إلى المواطن العادي أن الملك وحده مَن يقوم بالعمل الجبار لضمان العيش الكريم لجميع المواطنين.

خلاصتان يمكن استنتاجهما مما سبق ذكره:

الأولى: أن الأنظمة السلطوية لم تعد تكتفي بإجراء الاعتماد "الإصلاحات السياسية" الشكلية التي لا تعني بالضرورة الدخول في مسلسل دمقرطة النظام، هذا التوجه كما تثبته التجربة المغربية لم يعد كافياً لإطالة الحكم السلطوي، كما أن خيار الاعتماد بشكل مطلق على القمع لضمان استقرار النظام أصبح متجاوزاً؛ لما يحمله من تكلفة غالية بالنسبة للنظام فيما يخص علاقاته مع الخارج، كما أن استراتيجية تدجين النخب ليست أيضاً لوحدها الضامن الوحيد ضد الهزات (عدم الرضا) القادمة من المجتمع، هذا الأمر يمكن استنتاجه بشكل واضح من ثنايا خطب ملك المغرب الأخير، حين أشار إلى الدور السلبي للنخب وللأحزاب السياسية وعجزها عن القيام بدور الوساطة بين الدولة والمجتمع؛ لكي لا تحدث قطيعة بين الجانبين بسبب عدم الرضا وانعدام الثقة في السلطة.

الاستنتاج الثاني يخص الإشارة إلى التحول في الاستراتيجية المتبعة من طرف النظام، أي الاستعانة "بسلطة الخطابة" والتواصل مع المجتمع لا تعني بالضرورة التخلي بشكل كلي عن خيار القمع والترهيب، بل أريد القول: إن هذا الخيار الأخير لم يعد ممارساً بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع، كما كان عليه الأمر مثلاً أيام الحسن الثاني حين كان يتم الإجهاز بشكل وحشي على الاحتجاجات الاجتماعية، ولا داعي هنا للتذكير بالكيفية التي وُوجهت بها الانتفاضات في الدار البيضاء في مارس/آذار 1965 ويونيو/حزيران 1981 وفي بعض المناطق الأخرى سنة 1984 و1990.

اللجوء إلى القمع والترهيب في الوقت الحالي اتخذ طابعاً مغايراً وانتقائياً (أي ليس موجهاً بشكل مباشر إلى المجتمع بكليته)، حيث استعمال الوسائل "القانونية" والزج بالأصوات المزعجة (من صحفيين ونشطاء يفضحون الفساد والاستبداد) في السجن بتهم خيالية، الغرض من ذلك إعطاء العبرة للآخرين، وهذا النوع من القمع هو ما أسمّيه هنا "القمع الناعم".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد