خدمات ما بعد الموت!

بعض الود والاعتذار المتأخر فاقدٌ نصف قيمته كقهوة باردة.. الود المتأخر هو عبارة عن خدمة ما بعد الموت، يجود بها الأحياء ولات حين نفاعة! ولو خرجت قبل أوانها لحقنت في الوريد جرعة رضا، ولأعشب بستان القلب.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/14 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/14 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

لا بد أن تموت لنعرف فضلك ونعاملك باحترام، فتلك "خدمات ما بعد الموت"!
كان لا بد أن يستشهد بضعة عشر من قادة أحد الفصائل في سوريا لنرضى عنهم ثم نزكيهم..
وكان لزاماً أن يموت "فرمان" -الذي أنقذ 14 نفساً في سيول جدة- ليعترف البعض بأن ثمة خيراً في نفوس الأجانب.

يبقى بعض الناس في الدنيا كرصيف مهمل لا يلتفت إليه أحد، فإذا مات فاضت المحابر والحناجر بالود المتأخر.

من أصدقائي في الفيسبوك، "صالح" توفي رحمه الله، من عجيب أنواع الرثاء وهي كـ"خدمة بعد الموت" ما كتبه أحدهم على جدار صفحته: "رحمة الله عليك.. سأقبل صداقتك الآن رغم عدم معرفتي بك"!

لم أجد رقصاً على جثمان ميّت كرقص هذا العابث..
ذلك الميت نحسبه في رفقة من يحب وبصحبة من يرضى، ولاحاجة له بالصداقة الافتراضية والشفقة الآن، ولو نطق لقال: "كانت ستنفعني -ربما- وأنا حيٌّ، أما الآن فلا".

بعض الود والاعتذار المتأخر فاقدٌ نصف قيمته كقهوة باردة.. الود المتأخر هو عبارة عن خدمة ما بعد الموت، يجود بها الأحياء ولات حين نفاعة! ولو خرجت قبل أوانها لحقنت في الوريد جرعة رضا، ولأعشب بستان القلب.

كتب إمام الحرم الشيخ الكلباني: "(غازي القصيبي) غضب عليه الجميع، ثم رضي عليه الجميع"!
وكأن الموت شرط الرضا!

هناك نفوس كأنها "مقبرة" لا تحب ولا تتقبل ولا تحتضن إلا الموتى.
يحكي "ماجد": "كنت أذهب مع أخي الأكبر للمدرسة وكنت حينها طالباً في المرحلة الثانوية،
كنت لا أحبذ سماع الأغاني وأخي بالعكس مهووس بها.

في كل صباح، نمرّ بمقبرة المعلاة في مكة وكان يغلق الصوت عند مرورنا بالمقبرة، وفي أحد الأيام سألته: لماذا تغلق الأغاني عند مرورنا بالمقبرة؟! فقال: نحترم الأموات!
قلت: والحي الذي بجانبك، هذا ليه ما تحترمه وتغلقها طول ما هو معك؟!
قال: يا زينك ساكت".

علمت حينها أن الناس تحترم الأموات ولو لم تعرفهم ولا تحترم بعض الأحياء وهي تعرفهم.
ولست متأكداً ما إذا كان هذا من قبيل احترام الميت أم هي رهبة الموت؟
كدت أنادي بكل خلية: يارُبَّ حيٍّ أولى بحسن معشر!

يتعذرون بأن الحيّ تخشى عليه الفتنة، ولقد سمعنا بحيِّ تُخشى عليه الفتنة ولم نسمع بحيٍّ يُخشى عليه الحب والود.

لا أدري أكان لزاماً أن يحتاج الناس للموت ليُخرج الذين حولهم من مشكلة الخرس العاطفي؟
لفحَ نجيب محفوظ برود الحاضرين فصاحَ: "لا أحب الحب الصامت.. أخبرني بحبك!".

بعض الغياب البسيط مندوب إليه، الغياب البسيط كالسفر أو غيره، يجعل المشاعر تفيض وتقول ما ظل محبوساً في حجرة الفؤاد.

ولولا غياب بيغوفيتش 5 سنوات في زنزانته لما رأينا ورأى خواطر أبنائه (سابينا/ليلى/بكر)، رسائل بعثوا بها له في سجنه أرفقها في كتابه "هروبي للحرية".
كان يتنفس ويحيا بها ويقول: "طالما كنت أسعد برسالة أكثر من طبق الطعام".

كُثُرٌ أولئك الذين انتظروا كلمة لطيفة يتورّد منها القلب، وأكثر منهم من عانى كلمة ظلت حبيسة في صدره تمنَّى لو أخرجها في زمن الإمكان.

"بروني"، ممرضة أسترالية عملت في رعاية المرضى الذين تبقى على وفاتهم القليل، لفشل الطب في تأخير الأجل المحتوم.. كتبتْ عن أبرز خمسة أشياء تمنّوا أن يتداركوها بعد أن كانت تسألهم: ما أكثر ما ندمتم عليه في حياتكم؟

واحد من هذه الأشياء التي ندموا عليها: "كنت أتمنى لو ملكت الشجاعة للتعبير عن مشاعري؛ لأعيش في سلام داخلي نتيجة التعبير الصادق".

الأديب الطنطاوي عانى في مرضه واشتكى قلة زواره، وحين زاره مجموعة من دعاة الخليج فرح بهم وشكا الوحشة والوحدة!

ولعله عزف بقيثارة مُلئت بأنّات الجوى حين كتب: "تمسَّكوا بأحبتكم جيداً وعبِّروا لهم عن حبكم، فقد ترحلون أو يرحلون وفي القلب حديث وشوق.

خدمات ما بعد الموت: ظاهرة تهدف إلى تقديس الميت الذي كان مهملاً وهو حي.. وهي من طريف الحياة الاجتماعية، سخِر منها علي شريعتي فحكى: "مات جاري أمس من الجوع، وفي عزاه ذبحوا كل الخراف!".

خدمات ما بعد الموت: تجعلنا نُجرّم كسر عَظْم الميت، وفي الحقيقة كسر عظم الميّت ككسره وهو حي.. لا مزايدة!

خدمات ما بعد الموت: حين نبارك "قتل" الحي ونقول: "الضرب" في الميت حرام!
وردة واحدة -أيها الأحياء- لإنسان على قيد الحياة أزهى من باقة كاملة على قبره، وكلمة في زمن الإمكان أجدى من مرثيّة بعد مُضيّ الأوان.

اذكروا محاسن موتاكم وأحيائكم.. والفصْل بين احترام الحي والميت علمانية في المشاعر، نعوذ بالله منها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد