أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في أثناء اعترافه رسمياً بالقدس عاصمةً لإسرائيل الأربعاء 6 ديسمبر/كانون الأول، أنَّ الولايات المتحدة لا تزال تدعم حل الدولتين لتسوية الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، شريطة أن "يتفق عليه كلا الجانبين".
وللمرة الأولى في 26 عاماً من عمله كصانع للسلام، لا يوافق كبير المفاوضين الفلسطينيين على ذلك.
إذ قال صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والمناصر الراسخ لقيام دولة فلسطينية، في مقابلةٍ جرت الخميس 7 ديسمبر/كانون الأول، إنَّ ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "نجحا في القضاء على ذلك الأمل". وتبنَّى تحوُّلاً جذرياً في أهداف منظمة التحرير الفلسطينية: دولة واحدة، لكن يتمتع فيها الفلسطينيون بالحقوق المدنية نفسها كالإسرائيليين، بما في ذلك حق التصويت.
وقال: "لم يتركوا لنا خياراً. هذا هو الواقع. نحن نعيش هنا. ونضالنا يجب أن يتركَّز على شيءٍ واحد: الحصول على حقوقٍ متساوية".
لكن، يُستبعد أن يؤدي تغيُّر محور تفكير عريقات إلى تغيير السياسة الفلسطينية. فحلم إقامة دولة فلسطينية مترسِّخٌ داخل جيلٍ من قادة السلطة الفلسطينية بصورةٍ أعمق من أن تسمح بالتخلِّي عنه الآن. ويُستبعد أن تقبل إسرائيل بفكرة الحقوق المتساوية؛ لأنَّ منح حق التصويت لملايين الفلسطينيين سيؤدي في آخر المطاف إلى نهاية إسرائيل كدولةٍ يهودية، وفق ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
لكن حقيقة أنَّ عريقات يتحدَّث علناً عن الأمر تُعَد شاهداً على الاضطرابات التي سبَّبها اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل في الشرق الأوسط. وسيطرت على تصريحات القيادات الفلسطينية الرفيعة، مثل عريقات، شعورٌ عميقٌ باليأس، أكبر بكثيرٍ مما أظهرته الاحتجاجات التي اندلعت في الضفة الغربية، والتي أسفرت عن إصابة العشرات، لكن كانت أقل حدة مما كان مُتوقَّعاً.
ويرفض مسؤولو الإدارة بشدةٍ، الحجة القائلة بأنَّ ترامب قد أسقط حل الدولتين. وقالوا إنَّه التزم مجدداً بما يُسمِّيه "الصفقة النهائية" بين الجانبين. وتجنَّب ترامب بتروٍّ اتخاذ موقف بشأن الحدود النهائية أو السيادة على القدس. ودعا لبقاء الوضع الراهن في إدارة الأماكن المقدسة اليهودية والإسلامية في البلدة القديمة بالقدس.
وقال: "نريد اتفاقاً يُمثِّل صفقةً عظيمة للإسرائيليين وصفقةً عظيمة للفلسطينيين".
لماذا أجّل نقل السفارة ؟
وبعيداً عن تصريحات الرئيس، كانت هناك إشارات أخرى حول نواياه. فقد وقَّع باسمه في اليوم نفسه، بتباهٍ يشبه جون هانكوك (مُوقِّع وثيقة الاستقلال)، ليعلن الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، في حين وقَّع بهدوءٍ وثيقةً أخرى ستؤجِّل نقل السفارة الأميركية إلى المدينة 6 أشهر على الأقل، وربما فترة أطول كثيراً.
أصرَّ مسؤولو البيت الأبيض على أنَّ قرار ترامب كان مدفوعاً باعتباراتٍ عملية ولوجيستية، وليست سياسية. وقالوا إنَّ وزارة الخارجية لا يمكنها فتح سفارة عاملة بالقدس وفق الجدول الزمني الوارد في قانون 1995 والذي يقضي بتوقيع الرئيس على قرارٍ بتأجيل التنفيذ لأسباب متعلقة بالأمن القومي كل 6 أشهر من أجل إبقاء السفارة في تل أبيب.
لكنَّ تأجيل الخطوة يتفادى سمةً ملموسة للسياسة الأميركية الجديدة ويُجنِّب البيت الأبيض سلسلةً من القرارات -مثل تحديد مكان السفارة في المدينة- والتي من شأنها أن تبدأ في تحديد الحدود الجغرافية في بيان ترامب، الذي تعمَّد جعله عاماً حول القدس.
فقال مارتن إنديك، السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، إنَّ "تجنُّب نقل السفارة يُمثِّل طريقة لتفادي تحديدٍ جغرافي. وتجنُّب أي تحديدٍ جغرافي في اعترافهم بالقدس يبدو كأنَّه جهد منهم للإبقاء على عملية السلام حية".
وقال خبراء قانونيون إنَّه لا يوجد شيء في قانون 1995 قد يمنع إدارة ترامب من تعليق لافتةٍ ببساطة خارج القنصلية الأميركية العامة في القدس وتسميتها "السفارة". فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أقامت الولايات المتحدة، على وجه السرعة، سفاراتٍ في مقراتٍ مؤقتة بعواصم الجمهوريات السوفييتية المستقلة حديثاً.
وقال سكوت أندرسون، الزميل بمعهد بروكينغز: "سأكون مفاجَئاً إن فسَّرت وزارة الخارجية قانون سفارة القدس على أنَّه يتطلَّب منها بدء بناء مقر جديد للسفارة أو اتخاذ خطوات أخرى كهذه".
وأضاف أنَّ "لغة القانون الصريحة لا تتطلب سوى أن يُقرِّر وزير الخارجية ويُخطِر الكونغرس بأنَّ السفارة الأميركية في القدس قد افتُتِحت".
وقال دبلوماسيون آخرون سابقون عملوا في الشرق الأوسط، إنَّ أهمية قرار تأجيل نقل السفارة كانت أقل بكثير من الأهمية الرمزية لبيان ترامب حول القدس.
فقال دانيال كورتزر، الأستاذ بجامعة برنستون والسفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ومصر: "كانت تلك محاولة لأن يكونوا أذكياء للغاية. لكن إن كانوا يعتقدون أنَّ أحداً سينخدع باعتقاد أنَّ هذا يجعل دبلوماسيتهم موثوقة، فإنَّهم يخدعون أنفسهم".
وبالمثل، يقول بعض المحللين الذين يراقبون الشرق الأوسط منذ فترةٍ طويلة، إنَّ حديث عريقات عن حل دولةٍ واحدة يعكس غضباً أكثر من كونه يعكس تغيُّراً مفصلياً في الموقف الفلسطيني. وبالنظر إلى رفض إسرائيل المُرجَّح لفكرة المساواة في الحقوق، يقول الداعمون الأميركيون والإسرائيليون لحل الدولتين إنَّ هذا الأخير، من الناحية الواقعية، يبقى هو الخيار الوحيد المطروح.
وقال ديفيد ماكوفسكي، الزميل البارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "لا أريد التقليل من الجرح الذي يشعر به الفلسطينيون. لكن كان هناك جانبٌ آخر في رسالة ترامب لم يتم استيعابه".
وأضاف ماكوفسكي أنَّ ترامب لم يغلق باب التفاوض على الحدود والسيادة. وأردف: "يجب الاستماع لكلا الجانبين". وفي حين تساءل عن توقيت الخطوة، قال إنَّ الفلسطينيين قد يعودون إلى الطاولة حين تهدأ الانفعالات.
وتابع ماكوفسكي: "غضبهم الآن كبير لدرجة أنَّهم ربما لا يمكنهم الاستماع لذلك. لكن إن قدَّم (ترامب) خطةً في الربع الأول، ألن ترغبوا في سماع ما هي؟ لا يزال الفلسطينيون يعتقدون أنَّ ترامب جرَّافة تسوية وأنَّه إذا ما منح الإسرائيليين شيئاً يوم الأربعاء، فإنَّه قادر على منح الفلسطينيين شيئاً يوم الخميس".
وفي مقابلته، ربط عريقات بين خطوة ترامب بنقل السفارة إلى القدس وتهديد إدارته بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن والتهديدات الأخرى بقطع التمويل المُقدَّم للفلسطينيين.
وقال: "هؤلاء إسرائيليون أكثر من الإسرائيليين"، في إشارةٍ إلى ترامب وفريقه المختص بالشرق الأوسط.
وقال عريقات إنَّه يعتزم الدفع داخل المجلس الوطني الفلسطيني، وهو برلمان منظمة التحرير الفلسطينية، باتجاه إحداث تحوُّل في الاستراتيجية. وأشار رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، إلى خطوةٍ مشابهة في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي.
لكن حتى إن كان عريقات قادراً على إقناع عباس بالتخلِّي عن حلم الدولتين، فإنَّ ذلك سيمثل تغيُّراً كبيراً لجيلٍ من القادة الفلسطينيين الذين خاضوا مساراً شاقاً كي يقبلوا بتقلُّص أرضهم بعد الحرب العربية–الإسرائيلية عام 1967.
فقال دانيال ليفي، رئيس مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط، المقيم في لندن: "من الصعب رؤية كيف يمكنكم الاستمرار في هذا المسار دون أن تُجرِّدوا أنفسكم في مرحلةٍ ما من هيئة أو مظهر سلطةٍ تتمتع بالحكم الذاتي. عليكم إنهاء السلطة الفلسطينية التي لم تصبح دولةً قط".
وعوضاً عن ذلك، قال ليفي إنَّه يعتقد أنَّ عملية السلام، والفلسطينيين، في "مرحلةٍ انتقالية" فشل فيها حل الدولتين في الوقت الراهن. لكن، كما يضيف ليفي: "ما فعله أشخاص بالإمكان التراجع عنه".