في حلقة نقاشية وبحثية عن الاكتئاب كوباء أصاب "العالم"، كانت المناقشات والدراسات ونتائج الأبحاث التي عرضت مذهلة وكاشفة. هناك تزايد كبير في نسب المصابين بالاكتئاب، وباء لم تنج منه دولة غنية كانت أو فقيرة، متقدمة أو نامية.
المرأة هي الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب وللهرمونات الأنثوية دور مهم في ذلك. وبينما يعتمد الرجل المكتئب "غالباً" على زوجته ويلتمس عندها المساندة، تلتمس هي العون من أمها، أو أختها أو صديقتها المقربة مما يزيد من الضغوط النفسية على النساء في العموم!
على إختلاف الدول ومدى تقدمها كانت المرأة من الطبقات الوسطى والفقيرة ومن هن في منتصف الثلاثينات من العمر ومن لديهن أطفال حتى عمر 14 سنة الأكثر إصابة بالاكتئاب.ففي هذه الفترة تبذل المرأة جهداً مضاعفاً للتوفيق بين عملها وبيتها وتربية أولادها، مما يحملها ضغوطاً كبيرة توهن صحتها النفسية.
انعدام وجود الصديق المخلص، كاتم الأسرار المؤتمن من العوامل المؤثرة جداً في الإصابة بالاكتئاب؛ حيث بلغت نسبة من يعانون من الاكتئاب مع وجود صديق حميم 4%، بينما بلغت نسبتهم بين من ليس لهم صديق حميم 38%!
مما يعني أن الشبكات الاجتماعية والعلاقات القوية فيها وقاية فعالة من الإصابة بالاكتئاب، وتمثل عوناً كبيراً في التعافي منه.
للوراثة أثر في الإصابة بالاكتئاب، وبصفة عامة الأطفال الذين ينشأون بين أبوين، أحدهما أو كلاهما يعاني الاكتئاب يكونون أكثر عرضة للإصابة به، إضافة إلى بعض العوامل الوراثية.
قد تسبب بيئة العمل الاكتئاب للعاملين، إذا كانت ذات طبيعة تنافسية عالية، أو اجتمع فيها عاملان هما أن تسودها ضغوط زائدة ومستمرة لزيادة الإنتاجية، مع انخفاض أو انعدام سلطة اتخاذ القرار الممنوحة للعامل.
بناءً على هذه الحقائق قامت بعض الشركات اليابانية بتزويد خطوط الإنتاج فيها برافعة حمراء إذا جذبها أي من العمال أوقف خط الإنتاج بالكامل، لا لشيء سوى لمنح العمال "الإحساس" بأن لديهم سلطة وإن كانوا عملياً لن يستخدموها أبداً.
من نتائج الدراسات على مستوى العالم أن الأفراد والمجتمعات التي يمارس أفرادها الروحانيات، سواء من خلال الممارسات الدينية والعبادات أو غيرها من الممارسات الروحية أنجح في الحد من آثار الاكتئاب، وأفرادها أسرع في التعافي منه.
من الإحصائيات الأخرى الجديرة بالذكر انخفاض نسبة المصابين بالاكتئاب بين كبار السن. فسر بعض الباحثون ذلك بأن للكبار "ثقافتهم" التي تمنعهم من التصريح بالمعاناة النفسية عكس الأجيال الأصغر سناً، أو لأن الكبار يموتون باكتئابهم مما يحول دون ظهور تمثيل دقيق لهم في الإحصائيات، أو أنهم قد مروا في فترات حياتهم السابقة الأكثر ضغوطاً بالاكتئاب فعلاً، لكنهم نسوا ذلك بمرور الزمن.
أدهشني عدم تفكير أي منهم أنه ربما الأجيال السابقة أساسها النفسي أقوى منا، فقد تمتعوا ويتمتعون بالفعل بالشبكات الاجتماعية القوية ويعيشون علاقات إنسانية أكثر صدقاً وواقعية مما يحياه الأصغر سناً. صداقاتهم ليست وهمية، ولم تتسع دوائر علاقاتهم توسعاً سلبياً كما حدث الآن، مما يصعب معه الحفاظ على السكون والسلام النفسي المنشود.
عاشوا عصراً كان يمكن فيه للإنسان أن يأخذ "استراحة" من مشاكله مع زميله/جاره/صديقه/قريبه بمجرد انصرافه إلى بيته. الآن بفضل شبكات التواصل ليس هناك استراحة ولا فاصل عن "المقارنات" و"التأويلات" و"المكائد" و"المراقبة"، كل الحدود الزمانية والمكانية مفتوحة ومستباحة مع من نعرف ومن لا نعرف بما لا يتحمله العقل السوي والنفس الطبيعية.
شبكات التواصل التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة "الاجتماعية" ما هي إلا "غرف للصدى"، تأتيها مكتئباً قيراطاً فتخرج منها محملاً بمائة وعشرين ألف قيراط إضافي من الاكتئاب.
"إعجاب" واحد منك.. بمنشور حزين أو كئيب كفيل بأن تجذب الخوارزميات كل الكأبة من حوائط من تعرفهم ومن لا تعرفهم وتصبها جميعها فوق رأسك.. وليس في ذلك ما يُسعِد أو يساعد، مما يهدم قيمة الشبكات الاجتماعية!
وهل نندهش بعد ذلك من تلف أعصاب الصغار والشباب مقارنة بالهدوء النفسي الذي يتمتع به الكبار؟!
خلاصة نتائج النقاش هي:
– العلاقات الإنسانية الطيبة هي خط الدفاع الأول ضد الاكتئاب، وفي تعزيز العلاقات القريبة وصلة الأرحام الكثير من الحماية والعلاج.
– النساء لسن عاشقات "للنكد" كما يشاع، ولكنهن ضحايا للاكتئاب بسبب كم المسؤوليات الملقى على كواهلهن. سيخف "النكد" متى وجدن المساندة وخففت عنهن الأعباء.
– إذا كنت مكتئباً فمن الحكمة أن تنقطع عن شبكات التواصل وتلتمس الدعم والمساندة من أهلك وأصدقائك ومن يهتمون لأمرك في الواقع. وقد يتطلب الأمر الذهاب إلى طبيب متخصص فلا تتردد في ذلك ولا تهمل نفسك.
-التمتع بحق وحرية اتخاذ القرار مهم لدفع مشاعر "قلة الحيلة" التي تضاعف من احتمالية الإصابة بالاكتئاب، سواء على المستوى الشخصي والعائلي، أو على مستوى بيئات العمل، وربما يكون منح تلك المساحة هو خط الإنقاذ الأخير الذي يمنع حدوث الانهيار، كما فعلت شركات الإنتاج اليابانية.. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.