بائع الغزلة.. رجل المخابرات

وفي عام 2002 خرجَ ابن عمي في مسيرةٍ مدرسية فيما يبدو أنها كانت فداءً للقائد وتعظيماً لإنجازاته ومحامده، وقد وقعت اليافطة التي يرفعها وعليها صورة القائد، فداسَ عليها بعض الطلاب ريثما تمكّن من التقاطها مجدداً وحملها وأكمل هتافاته للرئيس والوطن، إلّا أنّ عين الوطن ساهرةٌ لا تنام من أجل كرامة صورة الرئيس، فقد داهمت المخابرات منزلهم ليلاً واقتادت الطفل ذا الثلاثة عشر ربيعاً إلى فرع أمن الدولة وبقي هناك حتى تمكن والده من دفع الثمن مالاً وكرامةً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/20 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/20 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش

في أوائل سبعينات القرن الماضي كانت والدتي طالبةً في المدرسة الابتدائية، وكان الأساتذة يسألونها وبقيّة الطلاب عن أحوالِ بيوتهم وفيما لو أنّ أهليهم يتحدّثون في السياسة أو عن القائد المفدّى أو أنّهم يتذمرون من شيء! فإن ساعدت تلك الذاكرة الطريّة ذلك الطفل البريء وانطلق لسانه بأحوال أهله، فيا لَسوء ما أجرم من حيث لم يدري، فالأستاذ المحترم قد دوّن تقريره لأحد الرفاق المناضلين ثمّ هذا رفعه لرفيق مناضلٍ آخر ثم إلى آخر حتّى "تطبّ" ليلاً فرق المخابرات على عائلة ذلك الطفل وتقودهم إلى المجهول.

و"المجهول" هو المصطلح الذي يعني سجناً عاماً أو سريّاً، أو ربما محكمة ميدانية، المهم أنه مجهول لبقية البشر خارجاً، فإن تابعت العائلة السؤال عن أحوال مفقوديها، أضحت العائلة بأسرها مطلوبة لعدالة البعث.

وفي عام 2002 خرجَ ابن عمي في مسيرةٍ مدرسية فيما يبدو أنها كانت فداءً للقائد وتعظيماً لإنجازاته ومحامده، وقد وقعت اليافطة التي يرفعها وعليها صورة القائد، فداسَ عليها بعض الطلاب ريثما تمكّن من التقاطها مجدداً وحملها وأكمل هتافاته للرئيس والوطن، إلّا أنّ عين الوطن ساهرةٌ لا تنام من أجل كرامة صورة الرئيس، فقد داهمت المخابرات منزلهم ليلاً واقتادت الطفل ذا الثلاثة عشر ربيعاً إلى فرع أمن الدولة وبقي هناك حتى تمكن والده من دفع الثمن مالاً وكرامةً.

والغريب طبعاً أن مثل هذا النوع من المسيرات كان لا يخرج فيها سوى طلاب المدارس حيث كانت إلزامية وكذلك المدرسون، أي أنّ مَن وشى به هو أحد زملائه الصغار أو أحد معلّميه، وهذا ما يقودني للجملة الأكثر شيوعاً في سوريا البعث "الحيطان لها آذان"… نعم هي فعلاً كذلك، فقد جنّد نظام البعث كل شعبه مخبراً على أخيه وصديقه وجاره وعلى المارّة في الطريق وعلى الزبائن وعلى مرتادي المساجد، أذكرُ أنّ في ليلة سيطرة الجيش الحر على مركز أمن الدولة في مدينتي دوما، عُثِرَ على قوائم بأسماء مرتادي صلاة الفجر في المساجد، نعم.. في سوريا -كما هو حال كل دولنا العربية- كان بائع الغزلة مخبِراً وكرسون المطعم مخبِراً وسائقُ التاكسي مخبِراً وآذنُ المدرسة مخبِراً، حيثُ إنّه لن يمرَّ يومك قطعاً دون أن تكون قد مرَرت بمخبرين أو ثلاثة على الأقل.

وقد يستدرجك المخبر بحديث عامٍّ عن غلاء الأسعار مثلاً أو عاطفيٍّ كالفقراء وأحوالهم ودور الحكومة في ذلك، فإن أمسكتَ لسانك نمتَ في سريرك وإن لم تمسكه فقد وقعت في شِركه ونمت تحت الأرض حيث تقضم الجُرذانُ أطراف أصابعك.

والسؤال الذي يحيرني دائماً: ما الذي يجبر الإنسان على أن يكونَ فخّاً لأخيه الإنسان؟ لماذا يقتات هذا النوع من البشر على إيذاء الآخرين؟

هذا النوع من البشر هو الذي صنَع نظام البعث به ذراعه الأمنية ومدّها إلى أعناق شعبنا وضيّق عليهم حياتهم ومأكلهم ومشربهم، هؤلاء الأصناف من البشر هم ذراعٌ مجرمةٌ تبدأُ بها سلسلة القتَلة، فعندهم تبدأ رواية ملاحقة الناس في حياتهم وانتهاز نزواتهم ومحاولة استقراء مكامن أفكارهم وتسجيلها في تقارير للسيد الرفيق ثم للرفيق الآخر وهكذا، وصولاً للرفيق الذي يحمل الساطور ويقطع رقاب الأبرياء، ما الذي يجنيهِ هؤلاء حينَ يزرعون ظلماً ويسقونه حقداً وكرهاً لكل المجتمع؟ وَيكأنّهم ينتقمون من المجتمع وأهله بأن يكونوا سرطاناً في جسده وخنجراً في خاصرته!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد