لماذا نحب الشتاء؟!

الشخصيات المحبة للشتاء، لنسمات الهواء الباردة التي تصطدم بالجسد عند الخروج من المنزل، الشخصيات التي تشعر بالسعادة المفرطة حين يرون الضباب المنذر بالأمطار في السماء، وحين لا يرون للشمس مخرجاً من بين السحب، شخصيات واقعية جداً لا تمُثل عليكم أو تدّعي المبالغة

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/08 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/08 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش

هذه المقالة لمن تتصيدهم شمس أغسطس/آب لتعذبهم تعذبياً يشعرونه أبدياً، هذه المقالة لمن يدركون حقيقة فصل الصيف الزائفة، وإن كل المرح الذي يقدمه ما هو إلا ستار لحقيقة مرة، هذه المقالة لمن لا يستطيعون تحمّل الصهد والأرق بسبب الحرارة الشديدة، لمن يرهقهم الخروج في قيظ يونيو/حزيران لكن لا يمانعون الخروج في برد يناير/كانون الثاني أبداً، هذه المقالة لمن يشعرون بشم النسيم في قلوبهم بينما الناس يشعرون بتجمُّد أطرافهم في نوة ديسمبر/كانون الثاني تماماً كعمرو دياب، هذه المقالة لمن يدركون أن الوقت المناسب لتناول المثلجات ليس في الصيف أبداً، هذه المقالة لمحبِّي الشتاء.

أعرف أن المقالة قد تبدو خفيفة كثيراً، لا تتناول موضوعاً حيوياً وجذرياً واجب الحسم من وجهة نظر البعض، لكن دعوني أخبركم شيئاً، إن الموضوع مهم فعلاً حتى وإن بدا لوهلة سخيفاً جداً؛ لأنه في مثل هذا الوقت من كل عام يستعر الفيسبوك بنقاشات تبدو في ظاهرها محتدمة بين محبّي الشتاء أمثالي، ومحبّي الصيف، وقد وجب الوقوف عندها حتماً؛ لأن حب الشتاء ليس رفاهية يكتسبها أمثالي أو موضة عابرة بحياتنا، بل هو مكون رئيسي للشخصية، يسهم في بلورتها وإعطائها "بروازها" الخاص، أي إطارها وطابعها المميز.

الشخصيات المحبة للشتاء، لنسمات الهواء الباردة التي تصطدم بالجسد عند الخروج من المنزل، الشخصيات التي تشعر بالسعادة المفرطة حين يرون الضباب المنذر بالأمطار في السماء، وحين لا يرون للشمس مخرجاً من بين السحب، شخصيات واقعية جداً لا تمُثل عليكم أو تدّعي المبالغة، نحن نشعر بالسعادة الشديدة فعلاً إثر دخول طقس الشتاء على حياتنا، نحتفظ بالنتيجة القديمة التي تُعلّق على الحائط لمعرفة ميعاد النوّات والأمطار والرياح المحملة بالبرد، يعتبر شهر ديسمبر بالنسبة لنا هو الشهر الذي نُزهِر فيه، نعشق ارتداء الملابس الثقيلة والشعور بالدفء في داخلها، نحب شكل تضفير الصوف على هيئة معطف أو كنزة قديمة ذات ألوان غامقة أو باهتة بعض الشيء كالكُحلي والأسود والسكري الرقيق، إن هذا يعطينا استمتاعاً حسياً ومعنوياً ومادياً غير عادي!

كيف لأحد أن ينكر كمّ الدوبامين الذي يمتلئ به قلبه حين يرتدي بوطه الأسود اللامع الذي سيتسخ بالضرورة جراء اللعب تحت مياه المطر، أو في بِركة صغيرة كوّنتها مياه الأمطار في الشارع؟! كيف لأحد أن ينكر لذة إحساس الاستجمام أمام المدفأة بكوب من الكاكاو الساخن لمشاهدة فيلم في نهاية الأسبوع على الكنبة الصغيرة المقابلة للتلفاز؟! كيف لأحد أن ينكر حب شكل الشوارع وهي مغسولة بالأمطار، أو حب شكل مظلة الأمطار السوداء وهي تعانق الأيدي برقّة؟! كيف لأحد أن يجري ليختبئ من مياه المطر؟! كيف لأحد ألا يشعر في قرارة قلبه بالسعادة حين تخرج أنفاسه إلى الجو مُشكّلةً سحابة صغيرة وكأنما ينفث الدخان؟! كيف لأحد ألا يشعر أن الشتاء يجعل الجو رائقاً نقياً، في النفس، وحولها؟!

متلازمة حب الشتاء هي ليست مجرد "موود" نحياه أو موضة جديدة نسير خلفها، حب الشتاء هو شيء يُولَد الإنسان به ومعه، يألفه ويعتاده، وتنحفر ذكريات فصل الشتاء بكل ما فيه من تعب المذاكرة والامتحانات في وجداننا، متلازمة حب الشتاء تأتي من فرحتك برؤية الملابس الشتوية في دولابك الصغير، التي تنتظر أن تعانق جسدك وتُشعِرَك بالاحتواء.

أعلم إن هذا النوع من الجو قد يسبب لكثيرين الإحساس بالغمّة والاكتئاب، خصوصاً لأولئك الذين يجدون أنفسهم في المرح والسفر والذهاب للشواطئ والاستلقاء في الشمس؛ للاستمتاع بأشعتها المتعبة جداً بالنسبة لي، لكن على الوجه الآخر، فنحن أيضاً يصيبنا الاكتئاب في قيظ يونيو/حزيران، نكافح عدم الخروج من المنزل حتى لا نلتقي بجهنم الصغيرة على الأرض، نشعر أننا لا ننتمي لهذا العالم في ملابس الصيف الخفيفة، ولا نستشعر طعم الحياة حرفياً، بينما نحاول أن نمسح العرق الذي يجعلنا نشعر بالرغبة في الانتحار، أو بينما نحاول إيجاد مكان يستخدم المكيف الهوائي كنوع من الهروب من الحقيقة المرّة.

إن الأمر لا يتعلق بالأفضلية، أو مَن هو الفصل الأحسن من وجهة نظر محبيه، فمن الطبيعي أن يكون لكل فصل رونقه، مع أنه ليس ثمة رونق مثل رونق الشتاء طبعاً، لن نهاية، فإن الأمر يتعلق بالارتياح النفسي والطابع الخاص بالشخصية، ولذلك فإن النقاشات المحتدمة جداً على مواقع التواصل الاجتماعي كل عام هي طريقة غير واقعية بالمرة؛ لأنه في النهاية فالكل يعرف عيوب ومميزات الطقس وتقلباته، لكننا نظل على أحوالنا، لا يتغير مَن يعشق الشتاء عن رأيه بسبب بِركة طينية مرت فيها سيارة مسرعة فجعلته مسخاً طينياً مبللاً، ولا يتغير عن رأيه مَن يحب الصيف بسبب العرق الذي يملأ جسده إذا سار مسافة مترين فقط تحت الشمس المحرقة.

في النهاية، سنظلّ نحب الشتاء كما هو، بطينته، باستيقاظنا المبكر لأشغالنا في البرد، بما يعني خروجنا من بين ثنايا الأغطية، سيظل الجو البارد هو الذي يُشعرنا بالسعادة، وبالحياة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد