عندما كنت أقوم بكتابة رسالة الدافع الخاصة بإحدى المنح، قدم لي أصدقائي نصيحة، بألا أذكر الحرب وآثارها، وبألا أقص جزءاً من معاناتي على الورق؛ لأن أبناء العالم الأول قد ملّوا أحاديثنا عن الحرب.
حسناً، هل عليّ أن أمزق الورقة وأعيد كتابتها من جديد؟ أنا ابنة هذه الحرب، أسكنها وتسكنني، أشتمها وتشتمني، أصفعها مرة لتلحق بي بعدها مئات الصفعات.
لست أقوى على الحديث عن حياتي بعيداً عن أبجدية الحرب، فأنا لا أملك سواها. على ما يبدو يجب ألا أذكر ما اختبرته وقاسيته بالحرب، فأبناء العالم الأول لا يكترثون بما نعانيه، هذه الحقيقة، ربما ليس عليهم أن يدفعوا فاتورة ولادتنا في هذه البقعة الجغرافية، لنصمت إذاً، فهم لن يكترثوا بنا يوماً، هل تعلم لِمَ؟
لأنهم لم يدرسوا مرة على ضوء (الليد) الخافت، ففي بلدانهم، هم يحرصون على ألوان جدران غرف التلاميذ، ودرجات الإضاءة التي تبقيهم مرتاحين أثناء الدراسة. هم لم يختبروا ذلك الشعور بالحيرة بين الذهاب إلى الامتحان في يوم تمطر فيه سماء المدينة بالقذائف وبين البقاء في سريرك، هذا البقاء الذي سيحميك ربما، ولكن سيجعلك تدفع فاتورة ذلك من مخططاتك وأحلامك.
بالطبع سيصابون بالملل؛ لأنهم لم يجربوا أن يقرأوا الفاتحة على أنفسهم وعلى عائلاتهم، بعد أن صارت تلك النقطة الحمراء تعوم في منزلهم، تشاركهم طعامهم، نومهم وصلاتهم، يداعب وجوههم بها القناص بعض الأحيان؛ ليطلق في أجسادهم فورة أدرينالين يتسلى بها بعد أن ينتهي الشحن في جواله، هل جربوا يوماً أن يجاوروا قناصاً!
حسناً، قلت لي إن قصصنا تصيبهم بالملل، أنت محق، وهم محقون، فأنى لهم أن يختبروا شعورنا، نحن الذين نتعزى برؤية أجساد متفحمة على الشاشة؛ لأن جسدنا ليس من ضمنها.
قررت أن أعيد كتابة طلبي، وبدأت أسأل نفسي عن حياتي بعيداً الحرب، وبدأت أسأل نفسي اليوم، ما الذي عليَّ ذكره إن لم أذكر الحرب؟! تلك الحرب التي امتصت شبابي وسرقت منّي أحلامي، جعلتني حبيسة منزلي وخوفي لشهور متواصلة بعض الأحيان.
ما هو ذنبي إن كانت جعبتي تفرغ من التدريب بشركات محترمة، فلا وجود لها في بلادي التي اغتصبتها الحرب؟! هل رأيت كم مرة سأقول كلمة الحرب؟! فلتعد معي إذاً! لأغير الحديث ولأشرح لهم عن جانب المغامرة والاستكشاف في شخصيتي، لكن أنا لست مذنبة أيضاً بأن جواز سفري ليس فيه طوابع زيارات لبلدان أعبّر بها عن حبي للمغامرة والاستكشاف.
يا لَلسخرية! هل هنالك مغامرة أكبر من أن تعود إلى منزلك من طريق تتلقفه طلقات القناص!
أنا الآن لا أطالب أياً كان بأن يدفع ثمن ولادتي في هذه البلدان الملعونة بالشقاء والويلات، لا، وليس لي نية بتوريط أحد بمعاناتي، ولكن، وإن كانت اللجنة المسؤولة عن إعطاء الموافقة على هذه المنح، لا تكترث بمعاناتنا، ولا ترغب بسماع المزيد من القصص المملّة عنها، فلنكترث نحن، ولنحترم نحن معاناتنا التي جبلت أجسادنا وحياتنا وأفكارنا، فلنتوقف عن السخرية من حديثنا عن الحرب، لنفتخر أننا أبناء حرب، لنفتخر أننا وبعد ثماني سنوات من الحرب، نسهر، نضحك، نسمع موسيقى، نحب ونكره ونغضب ونقرأ الكتب ونرقص ونطلق النكات السخيفة.
لنفتخر على الأقل بقابليتنا للحياة التي لم تنهِها مناظر الجثث المتفحمة، والأجساد المدمية المقطعة في شوارع مدن مجاورة.
لنرفع السياط عن أجسادنا المنهكة والممزقة قليلاً، لنتوقف عن التورط بالتآمر عليها، ولنعانقها بحب وخشوع، ولنحتضنها ولو لمرة واحدة، فأنا على ثقة، بأنها اليوم، وبعد سنين من الفوضى والدم والأشلاء والجنون، هي تحتاج للعناق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.