الفقيه والسلطان: الدين في خدمة الطغيان (2-2)

بحكم تجذُّر الإرث الاستبدادي في التاريخ الإسلامي وتراكم نظرياته ونظمه فقهياً، أصبح الاستبداد سمة أساسية تطبع الحياة السياسية العربية الراهنة؛ إذ وَجدت الأنظمة العربية السلطوية فيه أساساً متيناً يمكِّنها من فرض تصوراتها حول طبيعة الحكم وآلياته، وأيضاً من جهة أخرى توظيفه كوسيلة ناجعة لهندسة المجتمع وإخضاعه ضماناً لاستمراريتها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/24 الساعة 04:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/24 الساعة 04:17 بتوقيت غرينتش

ارتبط الاستبداد في عالمنا العربي بثقل تجارب الإرث التاريخي، وكما بينّا في مقالنا السابق اضطلع الفقهاء بدور أساسي في تسويغه دينياً وإيجاد المبررات للدفع بقبول المظالم المترتبة عنه من منطلق هاجس الفتنة، مفضياً بذلك إلى تجذُّر معضلة الاستبداد كمتلازمة للحياة السياسية.

وهكذا، أدى هاجس الخوف من الفتنة إلى تحجُّر العقل الفقهي سياسياً واقتصاره على إنتاج نظريات وقواعد تتجه نحو رفض التغيير والتخويف منه، باثّاً بذلك روحاً تشاؤمية انتصرت للقهر والظلم عوض الانحياز إلى العدل والمساواة.

ولقد كان لهذه المقاربة عواقب وخيمة، قادت إلى إعادة إنتاج الاستبداد بأنماط جديدة وسمات متباينة الحدّة، لا يزال عالمنا العربي يرزح تحت نيرها حتى وقتنا الحالي في شكل أنظمة سلطوية تكاد تتشابه من حيث ممارساته السياسية وآليات تدبيرها للشأن العام ووسائل ضبطها للمجتمع، وأهمها إخضاع المجال الديني وتسخيره لخدمة غاياتها الأساسية، وهو ما يجرنا للحديث عن طبيعة العلاقة بين السلطة في العالم العربي والمؤسسة الدينية وتسليط الضوء على انعكاساتها على الحياة الاجتماعية والسياسية، وصولاً إلى سبل مواجهة الاستبداد وتعطيله.

طبيعة العلاقة بين السلطة والدين

بحكم تجذُّر الإرث الاستبدادي في التاريخ الإسلامي وتراكم نظرياته ونظمه فقهياً، أصبح الاستبداد سمة أساسية تطبع الحياة السياسية العربية الراهنة؛ إذ وَجدت الأنظمة العربية السلطوية فيه أساساً متيناً يمكِّنها من فرض تصوراتها حول طبيعة الحكم وآلياته، وأيضاً من جهة أخرى توظيفه كوسيلة ناجعة لهندسة المجتمع وإخضاعه ضماناً لاستمراريتها.

وعلى الرغم من أن أغلب البلدان العربية الحديثة ورثت عن الاستعمار هياكل ومؤسسات وقوانين حديثة؛ كتأسيس المجالس التشريعية، وإطلاق الانتخابات التشريعية، وصياغة الدساتير- فقد ظل ذلك شكلياً ولم يرتقِ إلى أن يصبح فلسفةً وأسلوباً متداولاً في الحكم والتدبير، بينما كرَّس جوهرها في الواقع سلطوية مطلقة تتماهى مع الموروث التاريخي من حيث احتكار الحكم وتهميش دور المجتمع واختراقه عمودياً كبْحاً لتطوره ونموه.

وعانت الأنظمة السياسية التي انبثقت عن الاستعمار أزمةً شرعيةً ووَهَناً واضحاً باعتبارها أنظمة أُسست إما بالتدخل الخارجي وإما عن طريق الانقلابات العسكرية، وهو ما يتضح جلياً من خلال الاضطرابات السياسية والاجتماعية جراء تصاعد الاحتجاجات الشعبية وعدم الرضا عن سياستها الرسمية أو برفض الأيديولوجيات الرسمية، سواء كانت قومية أو اشتراكية أو غيرها، والتي ظلت تُواجه بنفور عام بفعل حمولتها الثقافية الغريبة عن البيئة الإسلامية.

وبفعل هذه الأزمات البنيوية التي واجهت الأنظمة العربية، ترسخت قناعة أساسية، مفادها أن الإسلام يشكل عنصراً ومحدداً أساسياً لا يمكن تجاهله في عملية بناء الدولة ونيل الشرعية؛ لكونه دين غالبية العرب؛ لذلك جرى العمل على تحجيمه والحد من نفوذه الروحي وتطويعه لتحقيق الشرعية اللازمة لاستمرارية نظام الحكم، من خلال السيطرة على المؤسسة الدينية وتجريدها من هامش الاستقلالية النسبية التي ظلت تتمتع بها، خاصة الاكتفاء المالي، بمصادرة الأوقاف والأملاك الخاصة، وكذلك تعطيل الدور التشريعي لصالح مؤسسة رسمية تضطلع بذلك قانونياً.

وفي إطار هذه العلاقة القائمة على الاستتباع، تم تحويل المؤسسة الدينية إلى أحد الأجهزة الرسمية، من خلال إلحاقها بالهياكل الحكومية وإحداث مناصب دينية جديدة، منها دار الإفتاء وهيئات كبار العلماء والإشراف على التعليم الديني؛ ومن ثم تحول علماء الدين إلى موظفين رسميين، بما يتضمن ذلك من واجبات مفروضة وامتيازات ممنوحة.

وقاد ذلك إلى تحوُّل بعض المؤسسات الدينية بالعالم العربي إلى بيروقراطيات ضخمة، تتشابك فيها هياكل معقدة يطبعها التنافس للاستئثار بالمشهد الديني، ترتبط بشبكة مصالح متبادلة مع نخب الحاكم، أساسها الاعتراف بالسطوة على المجال الديني مقابل نيل الشرعية الدينية للسلطة.

يتخذ توظيف الدين في السلطة بالعالم العربي أنماطاً ومسالك متعددة تنحو في الاتجاه نفسه المتفق عليه سلفاً، أبرزها الإشراف على المناهج التعليمية الدينية وإدراج التصورات الرسمية فيها، أو عبر استخدام الوعظ الديني كآلية لتشكيل قناعات دينية عامة من خلال أجهزة الإعلام الرسمي أو المساجد الرسمية.

وفي هذا الصدد، يلاحَظ أن تعامل الأنظمة السياسية مع الدين يختلف من قطر لآخر، بيد أن هناك نموذجين واضحين في توظيف الدين لخدمة السلطة وتوجهاتها الرسمية وإضفاء طابع الشرعية عليها، ومن أبرزها: المثال السعودي، الذي يشكل نموذجاً عن النظام السياسي الذي يتخذ من تطبيق الشريعة الإسلامية دعامة أساسية في الحكم. وكذلك المملكة المغربية، التي تختص بنموذج متميز، حيث يجمع الملك سلطتين؛ زمنية باعتباره قمة هرم النظام السياسي، ودينية في إطار إمارة المؤمنين، وهو ما يتماهى إلى حد كبير مع تجارب الخلافة الإسلامية التاريخية، وإن كان نطاق النفوذ الروحي مقصوراً على مجال جغرافي محصور في المغرب.

والجدير بالذكر أن الأنظمة السياسية بالعالم العربي لا يهمها الدين في حد ذاته، وإنما يراد من توظيفه خدمة أجندة محددة، جوهرها محكوم بهاجس الحفاظ على نمط السلطة القائم عبر ضبط الخطاب الديني ومنع ظهور قراءات جديدة له، خاصة في شقه السياسي؛ ومن ثم منع توظيفه من طرف الحركات المناوئة التي تستمد من الأيديولوجية الدينية مرجعية لها كتيارات الإسلام السياسي. ولقد اتضح هذا جلياً في الاضطرابات السياسية التي شهدتها بعض الأقطار العربية بعد الربيع العربي، كالصراع بين الحكومة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين، وبين هذه الأخيرة والأنظمة الخليجية.

ومع تنامي الأيديولوجية المتطرفة، أصبح الحقل الديني محط الأنظار في إطار المقاربة الرسمية؛ للقضاء على الأفكار المتشددة وتحجيمها، وطفا إلى السطح نقاش حاد حول ضرورة مراجعة الخطاب الديني. ومن جهة أخرى، تهدف الأنظمة العربية، بسيطرتها على المشهد الديني، استدعاء الدعم الديني والأخلاقي، وشرعنة ممارسات السلطة، وإضفاء طابع القدسية على وجودها، وفي المحصلة كان لهذا الاستتباع الذي ميَّز علاقة الدين بسلطة انعكاسات عميقة طالت مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية.

آثار الاستبداد الديني وانعكاساته

قاد هذا الاستتباع الذي ميَّز علاقة السلطة بالدين إلى إنتاج تصور رسمي للدين حصره في جملة الطقوس التعبدية والاعتقادية، وحصره في زاوية ضيقة، غايتها إعادة إنتاج الاستبداد الذي كان مسؤولاً، بدرجة كبيرة، عن تبلُّد العقل السياسي وكبح تطوره نحو نظام مدني، يقرُّ للشعب بالسيادة ووجود مؤسسات منتخبة قابلة للمحاسبة وآليات سلمية لتداول السلطة بما يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية من العدل والمساواة.

وإن ضبط الدين بالسياسة كتوجه رسمي مكَّن من تضخيم الاستخدام الجائر لمفاهيم الطاعة والولاء، متيحاً بذلك تكريس واقع الاستبداد كحالة مزمنة وتعطيل دور المجتمع كعنصر أساسي صاحب السلطة. من جهة أخرى، عطَّل آلية اجتهاد فقهي يمكن من تجديد المعرفة الدينية بما يخدم مستقبل المجتمعات العربية وتقدمها.

ومن جهة أخرى، أدى انغلاق الخطاب الديني واقتصاره على منظومة التبرير الفقهي للممارسات السياسية إلى إفشال فرصة تاريخية للاستفادة من إنتاجات الفكر السياسي الحديث ومبادئ الديمقراطية؛ كالتداول السلمي للسلطة، وسيادة الأمة، والتعددية الحزبية، تحت طائلة أنها نقيض للإسلام ومدعاة للفرقة والخلاف المنهيّ عنه، متناسين أن هذه التجاذبات هي أساس التقدم والنمو، فالأمم المتحضرة لا تجد حرجاً في اختلاف الآراء ما دام ذلك مقنَّناً بقيم ومبادئ قانونية ودستورية.

وعليه، فبعد هذا التشخيص السريع، لا بد من الإشارة إلى البدائل الضرورية للخروج من حالة الانسداد التي أصابت الحياة السياسية في العالم العربي، وأولها إعادة النظر في الموروث الفقهي السياسي.

سبل مواجهة الاستبداد

إن من المهم الإشارة إلى كون الحديث عن ضرورة مراجعة الخطاب الديني ليس قدحاً أو انتقاصاً لحقه أو تبخيساً لمكانته بقدر ما هو ضرورة تاريخية ملحَّة تفرضها تحديات العصر وإشكالاته المستجدة، وهو ما يقتضي إعادة النظر في التراث الفقهي السائد والكشف عن مكامن الخلل فيه وفق مقاربة شمولية.

إن التصور الفقهي السائد لإدارة الشأن العام وكيفية الحكم، جعل الأمة العالقة بين ثنائيات الفوضى أو الاستبداد، وبين الظلم أو الفتنة، حاصراً بذلك الاختيار بين السيئ والأسوأ، فبديهي أن يتم تفضيل السيئ على المخاطرة بالأسوأ وتحمُّل تبعاته، متناسين أن هذه المعادلة يمكن تعديلها وإعادة صياغتها من جديد على أساس ثنائية الاستبداد/الحرية والعدل. ومن ناحية أخرى، ينبغي إدراك أن هذه التصورات الفقهية اجتهادات زمنية وليدة ظروف وسياقات تاريخية معينة انتهت؛ ومن ثم فلا يمكن أن نبقى أسرى لتصورات ليست من الدين في شيء.

إن إعادة طرح معادلة الفوضى كبديل للاستبداد غير منطقية ولا تستقيم في وقتنا الحالي؛ فهناك أشكال جديدة للاحتجاج السلمي كوسائل ضغط ناجعة، من اعتصامات ومظاهرات وعصيان مدني، وغيرها من الوسائل التي لم تكن معروفة لفقهاء صدر الإسلام، فقد كانت الآلية المتاحة للتغيير هي الثورة المسلحة؛ ولذلك كان يُنفر منها لعواقبها الجسيمة.

وهكذا، تصبح قضية تطوير حكم مدني يتماشى مع مقتضيات الدين ويراعي خصوصياتنا الثقافية والتاريخية واجباً دينياً؛ ضماناً لتحقيق غايات ومقاصد الإسلام، التي لا يمكن أن تنجح إلا بالتأسي بتجربة الخلافة الراشدة، باعتبارها الأقرب إلى روح الدين وفلسفته في المجال السياسي، مع ضرورة الاستفادة من خبرات النظريات السياسية الحديثة في الحكم أو تدبير الشأن العام، كسيادة الأمة والتعددية الحزبية والحرية.

وإجمالاً، يمكن القول إن محاربة الاستبداد باسم الدين مطلب ضروري، لا يمكن في غيابه إنجاح أي انتقال ديمقراطي، لا بد لنا من الاقتناع بأن الديمقراطية، في مقاصدها وغايتها، هي طريق للإسلام وأنسب وسيلة للخلاص من متلازمة التخلف والاستبداد.

المراجع:
– الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية.
– الإسلام الرسمي في العالم العربي.. التنافس على المجال الديني، ناثان ج براون، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
– الحاجة إلى تجديد الفقه السياسي الإسلامي، ج 1، المختار الأحمر، مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد