"هل ستؤدي بي الأمومة للطبيب النفسي؟" قالتها السيدة نانسي، التي تعاني من الاكتئاب الحاد لطبيبها النفسي د. ديفيد بيرن، في أولى جلساتها معه.. فسألها الدكتور بيرن: "ما شكواكِ؟"، فقالت: "أنا أُم سيئة! أنا لا أستحق أن أكون أُماً من الأساس!".
فسألها بيرن: "ولِمَ؟"، فقالت: "ابني درجاته متدنية جداً وأنا السبب.. أنا أُهمله".
فسألها بيرن: "وما تعريفك للأم السيئة؟". فقالت: "الأم التي تمارس العنف ضد أطفالها".
فقال: "وهل تمارسين العنف ضد ابنك؟". فردّت نانسي: "بالطبع لا"، فقال الطبيب: "إذن لِمَ تصفين نفسك بذلك؟".
فقالت: "لأنني.. لا أعرف.. ربما شعوري بالعجز والتقصير هو ما يُملي عليَّ ذلك".
فقال: "فلنتفق إذن على أنه ليس هناك شيء اسمه أم سيئة، أما الأمهات اللاتي يمارسن العنف ضد أطفالهن فلديهن مشاكل أخرى، فلنقُل إنك أُم مقصرة وفي الحقيقة الكل مقصر.. الجميع ينقصه شيء ما.. أو فلنقُل الجميع يجتهد"، فقالت: "لست مجتهدة بما يكفي"، فسألها: "ألا تعدين له الطعام يومياً؟ ألا تحمّمينه؟ ألا تساعدينه في واجباته المدرسيه؟ ألا تهتمين بمستواه الدراسي؟ ومَن يصادق؟ وماذا تعلم؟ ومع من تكلم؟"، فقالت: "بلى.. وأوصله يومياً للمسبح كي يمارس هواية السباحة ونلعب معاً ألعاب الفيديو في يوم الإجازة وأحياناً نعد معاً بعض الكعك اللذيذ.. يا ربّ لقد نسيت أنني أفعل".
وهكذا نصحها الدكتور بيرن أن تدوّن كل الخواطر السلبية التي تداهمها في ورقة وطلب منها أن ترد عليها.
على سبيل المثال: أنا أُم سيئة، فليكن الرد: ليس بالضبط.. فقط نسيت كذا وكذا ولكن سأحاول في المرة القادمة أن أفعل كذا.
أنا لم أذاكر لولدي هذا المساء، إذن سأوقظه صباحاً كي أعوّض ما فاته.. لم نمارس معاً نشاطنا اليومي، فليكن الرد: لا بأس كنت متعبة اليوم وليس ضرورياً أن يكون النشاط بشكل يومي، ربما قضينا وقتاً أطول معاً يوم الإجازة.. لم أطهُ اليوم، فليكن الرد: ليست هناك مشكلة، ربما تناولنا البيتزا أو بعضاً من طعام المعلبات كنوع من التجديد.
الاكتئاب هو وسواس داخلي ينفث مشاعر تحقير الذات لدى الإنسان ويسيطر عليه فيوهنه ويشعره أنه عاجز غير قادر على إنجاز أي شيء، أو حب أو فعل أي شيء، ثم يسحب الاكتئاب من روحه، ثم يغلب على الجسد الشعور بالوهن والضعف وعدم الرغبة في أي شيء، حتى مريض الاكتئاب يصبح غير قادر على رؤية إيجابيات حياته، مما يزيد شعوره بالتعاسة.
والواقع أنه ليس كل مرضى الاكتئاب تراودهم أفكار انتحارية، بعض الدراسات والأبحاث أثبتت أن تغير كيمياء الدماغ بسبب الاكتئاب أمر ليس له أساس من الصحة، والكثير قد وجدوا ضالتهم بعد مواجهة الوسواس الخبيث ومداهمته في كل مرة تسيطر عليهم تلك الوساوس الوهمية.
الحقيقة أن الأمور والأحداث كما هي، ولكن فقط رؤيتنا للأمور هي ما تختلف لو كنا نعاني من الاكتئاب، وتؤكد الدراسات الحديثة أن علاقة واحدة صادقة وقوية بشخص ما قد تدفعك بعيداً عن الاكتئاب.
ذكر الدكتور بيرن قصة امرأة أخرى نجت بأعجوبة من محاولة انتحارها الأخيرة قُبيل أن تصبح موتاً محققاً، ولما تماثلت السيدة للشفاء بدأ الدكتور بيرن في متابعتها، وكانت كالسيدة السابقة تشعر بالفشل والإحباط، تشعر بأنها لم تنجز أي شيء في حياتها على مدى أعوامها التي تجاوزت الستين، فوصف لها بعضاً من مضادات الاكتئاب، وطلب منها أن تقوم بواجب منزلي ألا وهو أن تكتب في ورقة بعض الإنجازات التي أنجزتها في السابق حتى لو كان السابق البعيد.
وعادت السيدة بعد أسبوع وكان الطبيب نفسه نسي أمر هذا الواجب المنزلي، فقالت وهي تدلف خارجاً بعد انتهاء الجلسة لقد قمت بأداء الواجب المنزلي، فقال: "أي واجب؟" فقالت: "أن أكتب إنجازاتي.. لقد هربت بأولادي بعد موت زوجي وأهلي في معسكرات اللاجئين من النازية.. كنت أنظف المراحيض وأعمل خادمة في البيوت كي أطعم أطفالي وأجد لنفسي سقف بيت أحتمي به، وقد تخرّج أكبر أبنائي في جامعة هارفارد في مدرسة إدارة الأعمال"، فنظر لها بانبهار، فأكملت: "وأتحدث خمس لغات بطلاقة".
فقهقه الطبيب: "وتقولين ليس لديكِ إنجازات! حسنا بمَ تشعرين الآن؟"، فأجابت: "بكثير من التحسن الآن، هل لديك تقنيات أو أنشطة أخرى مثل هذه كي أمارسها؟"، وكانت هذه أولى خطوات الاعتراف بالعلاج عن طريق الـ cognitive therapy.
وأضاف الدكتور بيرن في كتابه The Feeling Good Mode أن أغلب زبائنه في عيادته أشخاص ناجحون وموهوبون وربما مشاهير يعانون من عقدة الكمال، فكان علاجهم يكمن في معرفتهم أن قيمة المرء ليست بما ينجزه أبداً، بل قيمة الإنسان كما هي، لا ينقصها عدم الإنجاز.
وختم الطبيب الشهير إحدى محاضراته على موقع تيد بقصة ولده الأول إيريك، الذي وُلد يعاني من نقص الأكسجين وجلده أزرق وينتفض بحثاً عن الأكسجين، وحينما عاد الدكتور بيرن إلى منزله محطماً على أثر ما قاله له الطبيب إن ابنه سيعيش بمشاكل في التنفس طيلة حياته، فأخذت الأفكار السلبية تداهمه لتحطمه: "كيف الحال إن كان ابني سيظل كذلك طيلة حياته؟ هل سأقضي عمري بين العيادات؟ ماذا لو لم يصل الأكسجين إلى دماغه فأصبح لديه إعاقة عقلية فيما بعد وعيّرني الناس بذلك؟".
وسرعان ما تذكر ما يقوله لمرضاه فقال: ولمَ هذا التشاؤم فربما سيكون بخير وحتى وإن كان ذا إعاقة عقلية، فسيعاملني الناس بما يرونه منّي.. وذهب لابنه في غرفة الإنعاش ولمس يد ابنه الراقد داخل الحضانة، ثم قال له: "أحبك إيريك.. وأمك تحبك، ونحن ننتظرك وسنقف إلى جانبك حتى تتعافى مهما كلفنا ذلك!"، وعاد لمنزله وحدثت المعجزة؛ حيث اتصلت به إدارة المشفى وأبلغته أن ابنه سليم، ويمكنه العودة به للمنزل، وبرهن الدكتور بيرن على ذلك فطلب من ابنه الوقوف أمام الحضور؛ ليظهر لهم شاباً فتياً سليماً معافى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.