صرخة لاستنهاض الهِمَم

"إن الأزمة تلد الهِمّة ولا يتّسِع الأمر إلا إذا ضاق ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالِك. أَوشك فجر الأمة أن ينْبَثِق، فقد ادْلَهمَّت فيه الخُطوب، وليس بعد هذا الضّيق إلا الفرج، سنَّةَ الله في خلقه".

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/26 الساعة 03:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/26 الساعة 03:26 بتوقيت غرينتش

"إن الأزمة تلد الهِمّة ولا يتّسِع الأمر إلا إذا ضاق ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالِك. أَوشك فجر الأمة أن ينْبَثِق، فقد ادْلَهمَّت فيه الخُطوب، وليس بعد هذا الضّيق إلا الفرج، سنَّةَ الله في خلقه".

إنها صرخة مُدَوِّية صرخ بها جمال الدين الأفغاني، فارس القومة الإسلامية في منتصف القرن 19 الميلادي، إبَّان الغَزْو الإنكليزي لبِلاد المسلمين وَقْتَئد بعد تَدَهْوُر دور الدولة العَلِيّة العُثمانية وتراجع نفوذ وُلاتها في "البلاد المفتوحة" باسم "نشر الإسلام" و"الدعوة إلى الله".

قالها متفائلاً واثقاً من قُرب بُزوغِ شَمْس القومة الإسلامية وهو يرى أمامه أجيالاً صاعدة من أبناء الأمة تحمل هَمّ الإصلاح والتجديد والخروج من رَبقة الاِستعباد الداخلي الذي كان يشكِّله مُلوك الجَبْر وسلاطين الجور من جهة والهَيْمنة الاِستعمارية الأوروبية الإنكليزية من جهة أخرى.

قالها في زمن محمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم من المفكرين المسلمين الحاملين لرسالة النهضة الإسلامية وإن اختلفت مدارسهم ومرْجِعِيّاتهم فقد كانوا متّفقين حول الغايات الكبرى للوجود كالعدل والأمن والحق في العيش الكريم لجميع الناس وغيرها من عُرى الإنسانية، التي ما انْفكّت الدّيانات والرّسالات السماوية تدعو إليها بين المسلمين وغير المسلمين، تنفيذاً لشريعة رب العالمين، حتى تناقَلَتْها الأحاديث النبوية الصِّحاح عن الله -سبحانه وتعالى- في صُحُف إبراهيم قائلاً: "أيها الملك المغرور إني لم أخلقك لتجمع الأموال، بل لتَمْنَع دعوة المظلوم، فإني لا أرُدُّها ولو كانت من كافر".

لكن جمال الدين مات ولم يشهد النهضة المنتظرة، وكيف يشهدها وما لبث جيل القومة أن انْدَثَر لِيَخْلفه جيل بل أجيال مغيبة الهوِيّة مشتّتة الكلمة تَجْفُل من صَفير الصَّافِر، لا صلة لها بتاريخ أجدادها، ولا رؤية لها عن مستقبلها ولا تحمل بين طياتها رسالة تعطى معنى لوجودها، وربما كان من حسن حظ جمال الدين أنه لم يعِش ليرى حال الأمة اليوم وإلا لكان مات حزناً وكمداً.

ولهذا الاِنكسار الذي أدّى إلى وَأدِ النهضة في مهْدها أسباب عدّة داخلية وخارجية نَذْكُرُ منها السبب الرئيسي في نظرنا:

غِياب القِيادة الرّاشِدة

ونعني بالقيادة الراشدة النّخبة التي تجمع بين القدرة على التغيير والإصلاح والرغبة العميقة في ذلك، ومتى اجتمعت هاتان الصفتان في جيل من الأجيال إلا وحقّق هذا الأخير طفرة نوعية ملحوظة في مجال أو مجالات اشتغاله، يظهر تأثيرها على الأجيال المعاصرة ويبقى أثرها تتدارسه الأجيال اللاحقة، وإذا تم تعميم هذه المنهجية على باقي المجالات الحيوية للحياة صارت لدينا نهضة منظومية وشاملة تزيد من قوة الأمة وتَحَضُّرها، وخير مثال على ذلك ما يسمى بعصر الأنوار الأوروبي، الذي بدأ كحركة تغيير اجتماعي في إنكلترا؛ ليشمل بعد ذلك جلَّ مجالات الحياة في أوروبا كلها محققاً بذلك نهضة شاملة طورت أوروبا، ما زال كل العالم يجني ثمارها حتى وقتنا الحاضر.

وفي المقابل، وفي ظل غياب القدرة على الإصلاح أو الرغبة في ذلك أو كِلَيهما يَبقى دور النُّخَب صوريّاً وتأثيرها الإيجابي رمزياً لا يظهر له أثر.

ولما كان ذلك كذلك انْطَبق علينا الحديث النبوي (وإن ضَعَّفه بعضهم): كما تكونوا يُوَلّ عليكم. وصِرْنا نرى ونسمع تَهَكُّم ولاة الأمر فينا وبنا: فمِن قائلة: "مَعاش البرلمانيين هو غِيرْ جُوجْ فْرانْك"، ومِن قائل: "لِبْغَى يْقَرِي وْلاَدُو يْدِيرْ إِدو فْجِيبُو" إلى ما لا يُعَدّ أو يُحْصى من استخفاف واستغفال واستحمار لأُمّة اسْتخفَّت بتاريخها وحاضرها ومستقبلها.

وفي الختام يدفعنا الضِّيق والأسى العَميقان لنطرح أسئلة وُجودِيّة إنكارية: هل كتب في اللّوْح المحفوظ أن أمة "اقرأ" ستظل هكذا مُستَضْعَفة مُستباحة العِرض مَهيضَة الجَناح؟ هل قضى الله علينا أن نعيش مُتَسوِّلين لحقوقنا طامعين فيما هو لنا؟ هل سنعيش ونموت كما مات جمال الدين الأفغاني دون أن تكون لنا نهضة أو تقوم لنا لنا قائمة؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد