تتعرض الموصل منذ يونيو 2014 وحتى اليوم ( وما بعد اليوم أيضا ) إلى ما يمكن أن يكون أكبر أزمة في تاريخها الحديث، وربما غير الحديث أيضا.
تعرضت الموصل في محاولة الشواف الانقلابية ضد حكم عبد الكريم قاسم عام 1959 إلى انتقام كبير من قبل الشيوعيين، وارتكبت مجزرة بحق أهل المدينة لا تزال آثارها باقية في ذاكرتهم، لكن تلك المجزرة لم تغير من نسيج المدينة الاجتماعي.
نعم، حدث الترييف بالتدريج في الموصل كما حدث في كل العراق، ولكنه حدث بطريقة أقل تأثيرا وأكثر طبيعية مما حدث في بغداد، الريف الذي جاء في الموصل كان في النهاية ريفها، كان من عشائرها المحيطة بها، أي أنه كان ريفا قريبا للمدينة وله علاقات تاريخية بها بمعزل عن الفروق الموجودة بينهما.
مع بغداد، وباعتبارها ( العاصمة) كان الترييف فيها مختلفا وليس من ريف بغداد حصرا بالتأكيد، لم يكن الأمر هجرة طبيعية من الريف إلى المدينة في بغداد، بكل ما يكون في ذلك من تفاعل طبيعي، بل كان انتصارا للريف على المدينة عبر الانقلابات العسكرية المتتالية التي قادها ضباط بأصول ريفية وجعلوا ( منطقتهم الريفية ) تتسيد وتسيطر على المدينة.
مع الموصل كان الأمر أقل وطأة، وأقرب إلى التفاعل الطبيعي بين الريف والمدينة، إلى توسع المدينة التدريجي الذي لا بد أن يضم جزءا من ريفها على نحو طبيعي.
لهذا أقول، لم تتعرض الموصل – عبر القرون – في نسيجها الاجتماعي إلى ما تعرضت له منذ يونيو 2014 أي منذ أن انسحب منها الجيش العراقي في ظروف مريبة وسقطت بيد عناصر من تنظيم داعش لم يتجاوز عددهم بضعة مئات أول الأمر.
في البداية، كان فكر داعش غريبا وهجينا على المدينة، التي عرفت نوعا اجتماعيا من التدين مع مسحة من التصوف التي لا يمكن أن تنسجم مع تحويل الدين إلى آيديولوجيا متطرفة.
ثم جاء تحطيم رموز المدينة من مراقد ومقامات ( مثل مرقد النبي يونس وسواها) ونبش القبور العادية ليضع المدينة بكل تاريخها أمام هذا النمط الجديد من التدين المتشدد الذي لا يفرق بين رمز تاريخي يحترمه الناس وبين الأوثان والشرك.
ثم جاء تهجير المسيحيين بعد شهر تقريبا من سقوط الموصل في قبضة داعش ليشكل ضربة قاصمة للنسيج الاجتماعي الموصلّي، المسيحيون الذين كانوا النسيج الأصلي للمدينة والذين كانوا دوما الجزاء الفاعل المتفاعل فيها..بعدها بأسابيع حدثت صدمة أخرى جاءت كما لو كنا نعيش في فلم رعب تاريخي، عندما تعرض الأيزيديين إلى حملة إبادة وتطهير عرقي، وسبيت الأيزيديات وبعن في سوق عام، وهو ما لم يحدث في أي مرحلة تاريخية على الإطلاق، بل لقد مر في مقال سابق أن السلطان سليمان القانوني قد عين أحد أمراء الأيزيدية حاكما على الموصل.
الشرخ الذي أحدثته داعش بما فعلته في الشهرين الأولين من سيطرتها على الموصل هو مما لا يمكن أن يجبر بسنوات طويلة، في الحقيقة لا أعرف أبدا إن كان ما حدث للمسيحيين أو الأيزيديين يمكن أن يصلح أصلا، أو إن كان هم أصلا يرغبون في إصلاح ما حدث والبقاء في وطن يتعرضون فيه للغدر ( أفهم أكثر رغبتهم في الانتقام كرد فعل لما حدث)…
أكثر من هذا، ألقت داعش بظلالها على العلاقة المتوترة أصلا بين الريف والمدينة فزادتها توترا وتدهورا.
هناك اتهام ثابت منذ سقوط داعش، يوجه من قبل أهل المدينة يتهم فيه أبناء الريف والجزيرة عموما بالتعاون مع داعش وبكونهم سندها في المدينة.
الاتهام يستند على بعض الحقائق بالتأكيد، ولكنه يحتوي على قدر كبير من التعميم، وأيضا يتجاهل الأسباب التي جعلت من أبناء الريف يقفون مع داعش.
مبدئيا لا يمكن إنكار فرحة أهل الموصل بخلاصهم من سيطرة المالكي على المدينة، ولم يكن ذلك من فراغ أبدا، بل كان نتيجة سوء تعامل المؤسسات الأمنية الرسمية مع أهل المدينة والفساد المستشري فيها الذي جعل المدينة مرتعا للعصابات التي تفرض الأتاوات على أهل المدينة علنا وربما بالتنسيق مع أجهزة الأمن فيها، كل عملية تجارية أو بيع عقار أو بيع محصول كان أصحاب الأتاوات يفرضون الحصول على نسبة منها ..وكان هذا سائدا جدا ومعروفا ولم تحاول المؤسسة الأمنية التابعة لحكومة المالكي التدخل فيه وغالبا تورط رؤوسها في الحصول على حصة لهم، هذا عدا المعاملة السيئة التي كان أفراد المؤسسات الأمنية يسومونها لأهل المدينة على الحواجز ونقاط التفتيش.
نعم، لقد فرح أهل الموصل بخلاصهم من سلطة المالكي ( الذي كان وقتها قد خسر الانتخابات ولكن كان لا يزال يرفض قبول حكومة بديلة عن حكومته) ولم يكن واضحا في الأيام الأولى المبكرة هوية المسلحين الذين سيطروا على المدينة، في الأيام الأولى لم يكن هناك علم داعش، لم تكون هناك وجوه واضحة ( اللثام يغطي الجميع) ولم يكن هناك تعرض لأحد على الإطلاق.
بعد أيام ظهر علم داعش وظهر واضحا هوية التنظيم، ولكن كان ثمة أمل عند عامة الناس، أمل مبني على حقيقة عدم حدوث تعرض لأحد في تلك الفترة: لعلهم ليس كما يقول الإعلام؟
لكن الكثير من أهل المدينة تمكنوا من الخروج في نفس الفترة، لم يكونوا مع المالكي ولا حزنوا عليه، لكنهم عرفوا أن داعش مما لا يمكن التعايش معه، وأن إخراجها سيكون مدمرا للمدينة..
أغلب من خرجوا كانوا من المقتدرين ماديا أو كانت لديهم مدخرات تكفيهم للصمود للفترة التي تخيلوا أنها تلزم لإخراج بضعة ألاف من المسلحين، لكن استثمار المسألة سياسيا وطائفيا من قبل حكومة بغداد ( والأطراف السياسية التي ترغب في إحكام سيطرتها على حكومة مقبلة) جعل الوقت أطول بكثير وهو أمر أتاح وقتا لداعش الحصول على المزيد من القوة واقتراف المزيد من الجرائم بحق السكان.
في حمى الاتهامات المتبادلة بين ( المدينة والريف) وبينما يحرص أهل المدينة التأكيد على أن أهل الموصل ( القحيّين، أي الأقحاح) لم يؤيدوا داعش، في تلميح واضح إلى أن غير الأقحاح أيدوها ( أي أولئك الذين من اصول ريفية)، يذكر اسمين ( من الأقحاح) ممن أيدوا داعش، الاسم الأول لطبيبة معروفة وزوجها وابنها وأزواج بناتها، والآخر لرجل دين وولد له. لكن عندما يتهم هذا العدد فقط من ملايين الموصل، فهذا يعني ضمنا وبوضوح ندرة تأييد داعش بين أهل الموصل فعلا.
الإعلام الحكومي والتابع للأحزاب والميليشيات الطائفية يستثمر في منطقة حقده التاريخي ويلوم أهل الموصل على سكوتهم عن داعش ولا يلوم الجيش الذي هرب ولا قادته الذين آثروا الفرار والسلامة من مواجهة داعش..
إن كان الجيش لم يفعل شيئا وهرب من داعش..
ماذا كان يمكن لأهل الموصل أن يفعلوا؟ ولماذا تسامحون العسكريين الذين فروا من داعش، ولا تعذرون مدنيين عزل على سكوتهم على داعش بينما كان يعدم منهم علنا وفي الأسواق على أي معارضة لداعش؟
*****
تحديات الموصل لن تنتهي بخروج داعش منها.
الموصل في أكثر المراحل حراجة في تاريخها، حكومة بغداد لها مشروع طائفي سيكون من المضحك إنكاره، وهو جزء من مشروع إقليمي طائفي وليس مجرد حكومة عابرة وشعارات ( ولعل الحكومة أصلا غير قادرة على الخروج منه لو فرضنا جدلا أنها راغبة في ذلك)…
في المقابل، الموصل وحدها، خطابات أردوغان يمكن وضعها ضمن إرشيف الخطابة والحماسة لا أكثر، لن يفعل أردوغان شيئا للموصل وإذا فعل فسيزيد الأمور سوءا، الأرث العثماني ترك أثرا واضحا في طبيعة المدينة وعقلها الجمعي، ولكن هذا تاريخ لن يعاد ولن يتكرر، تركيا ليست الدولة العثمانية وليس من المطلوب منها أن تكون، وأردوغان ليس سليمان القانوني، وآباؤنا اختاروا الانضمام لدولة العراق في استفتاء عام ولا يمكن عكس عجلة التاريخ.
ستتعرض الموصل لمحاولة تغيير ديموغرافي فيها، كما فعل صدام في مناطق الأكراد سابقا حيث جلب عرب من الجنوب وأسكنهم فيها، كذلك سيحدث في مدينة الموصل أو ضواحيها، سيكون هناك مراكز ثقافية تابعة للأحزاب الحاكمة في بغداد وستحاول نشر فكرها وسيكون هناك متملقون يتفاعلون معها، وربما مع الوقت سيكون الأثر الناتج عن هذا حقيقة لا يمكن تجاوزها.
وسيكون هناك رد فعل من تطرف داعش، يتجه إلى الإلحاد في ظل كل الإحباطات المحاصرة للسياق كله.
ستكون العلمانية المعتدلة حلا مقبولا يتعايش فيه التدين الموصلّي مع خيارات صعبة أخرى، لكن لا علمانية معتدلة في هذا الجنون المطبق…إما طائفية بغيظة بوجهين ( سني أو شيعي) أو علمانية متطرفة تحارب الصلاة كما تحارب قطع الرؤوس…
ماذا يفعل الموصلّي أمام كل ذلك؟
ليس أمامه الكثير للأسف…ليس أمامه سوى الصمود بوعي. الوعي الذي يجعله مدركا لمميزاته كموصلّي، لما يعرّفه كموصلّي، لانضباطه وجديته وحرصه على العمل والدقة…هذه هي الأمور التي جعلته موصلّيا وهذا ما يبقى منه وهذا ما يمكنه من أن يبقى وسط كل التحديات..أن يحافظ على ثوابت عقله الجمعي الذي تكون عبر القرون الخمسة الأخيرة، أن لا يجعل هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها تستنزفه وتقتل أفضل ما فيه..بل أن يجعلها تستنهض فيه كل قيمه لكي يقوم من أزمته..
الوعي أولا هو الحل، الوعي بما معنى أن تكون موصلّيا في الأساس، وفي الكيفية التي تكونت فيها هذه ثوابت الشخصية الموصلّية..
الحلول السياسية مهمة ولكنها تتحرك في السطح غالبا، الوعي يذهب إلى العمق وفي العمق. وهو ما يغير مسار الحلول السياسية المطروحة ويحولها إلى عملية إنقاذ حقيقية..
شيء أخير لا بد من أن أقوله عن مشكلة من مشاكل الشخصية الموصلّية..آن للموصلّيين أن ينظروا لها بعين النقد والتغيير..
الموصلّيون ليس لديهم حس المغامرة أو المخاطرة.
ربما دقة الحسابات التي يخططون من خلالها، والتي صارت جزءا من نمط تفكيرهم تجعلهم يبتعدون عن كل مخاطرة غير مأمونة العواقب.
ربما سيطرة (الأم – الهيلكوبتر) على الشخصية الموصلية تجعلهم يقمعون حس المخاطرة…النساء عموما يرغبن بالتفوق والنجاح ولكن ليس بالمخاطرة.
وهكذا هو الموصلي…
تنتج الموصل أهم القادة العسكريين الحرفيين..ولكن ليس القادة السياسيين..العسكرية تخطيط لوجستي محترف، والسياسة قفزة في المجهول…حتى رؤساء الوزراء الموصليين في العهد الملكي( أرشد العمري ومصطفى العمري)، كانوا تكنوقراط مهتمين بتحسين الظروف الإدارية والمعيشية ولكن ليس لديهم أدنى اهتمام بشعارات السياسة وصراعاتها…
يظهر ذلك جليا عندما يبدع الموصلّي، والإبداع مخاطرة ومغامرة، غالبا يكون إبداعه بعيدا عن الموصل، كما لو أنها مثل الأم التي تخاف على ابنها من مغامرة قد تقوده إلى نوبل، وتفضل على ذلك أن يكون طبيبا في عيادة الحي…تكبله الموصل بحرصها ودقتها في الحسابات وخوفها من المخاطرة، فيضطر إلى قمع إبداعه، نعم سيكون متقنا في التنفيذ…لكن ليس في الإبداع..
من زرياب[1] الذي ذهب بعيدا إلى الأندلس، إلى زها حديد التي غادرت أولا إلى لندن من ثم العالم كله، ومن جواد سليم[2] الذي غادر إلى روما وباريس ولندن، إلى إنعام كجه جي التي كان عليها أن تذهب إلى باريس لكي تسطر لنا روايات الحفيدة الأمريكية وطشاري وسواقي القلب..
عشرات الأسماء الموصلية الأصل لم تبدع إلا في بعدها عن الموصل (الملا عثمان الموصلي[3]، ريان عبد الله[4]، أكرم ضياء العمري[5]، قيدار الجليلي[6]، خير الدين حسيب[7]…الخ)..
وكم كان بدر شاكر السياب بصيرا بعمق الأشياء عندما قال عن شاذل طاقة ( أحد رواد الشعر الحديث مع بدر ونازك الملائكة): شاعر كبير أضاعه بقاؤه في الموصل!
ولم يكن ذلك إلا لأن الموصل تحبهم أكثر مما يجب، وكأي أم تحرص عليهم أكثر مما يجب..
في كل منهم كان ثمة قصة مدينتين، مدينة تمدهم بمواهبهم وعدتهم ولكنها تخاف عليهم من استعمالها، ومدينة أخرى، ربما تحبهم أقل من الأولى، ولكنها تحتويهم بأن تسمح لهم بأن يحلقوا بعيدا..
في كل منهم ثمة حوت عليهم أن يخرجوا منه، ثمة ثور مجنح يكبلهم وعليهم أن يركبوه ويحلقوا به بدلا من أن يخضعوا له..
على الموصليّين، في أزمتهم المقبلة أن يعوا كل ذلك، أن يدركوا أن المرحلة القادمة تتطلب بعض الخيارات الصعبة التي لن تكون مضمونة النتائج، ولن تكون محسوبة تماما كما تعودوا دوما…
لكن في هذا المنعطف التاريخي، لم يعد ممكنا إلا مواجهة الثور المجنح..والحوت القابع في الأعماق…
قصة مدينتين، عليها الآن أن تساهم في إنقاذ مدينة واحدة…
[1] أهم الموسيقيين في تاريخ الحضارة العربية، أنشأ مدرسة لتعليم الموسيقى والأتيكيت والطبخ في الأندلس، كانت أم الخليفة من طالباته
[2] أهم الفنانين التشكيليين الرواد في العراق
[3] موسيقي مهم ترك أثرا مهما في سيد درويش الذي افتبس منه بعض أهم ألحانه
[4] مصمم اللوغو المعروف، حدّث شعار دولة ألمانيا ليكون أوضح وهو أقدم شعار في أورويا، كما صمم لوغو فولغسواكن، أودي..
[5] مصحح السيرة النبوية
[6] واحد من أهم أطباء العيون في العالم، مكتشف المتلازمة المسماة متلازمة الجليلي
[7] مؤسس مركز دراسات الوحدة العربية الذي أمد المكتبة العربية بمئات العناوين والأبحاث الأكاديمية الجادة
هذه التدوينة منشورة على موقع الدكتور. للإطلاع على النسخة الأصلية إضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.