“سوسة كفّ عروسة”

عندما ننجب تتدفق ذكريات قد نسيناها.. ربما يُذكّرُك عقلك الباطن بيوم ولادتك، ترسم مشهداً متقناً للحكايات التي سمعتها من أمك وخالتك وجدتك عن اليوم الذي أتيت فيه إلى الحياة، ربما أيضاً تتخيل ألوان ثيابك الأولى كما حكتها لك جارتك التي كلما رأتك أخبرتك أن ابنها "تامر" يملك "سلوبيتا" كالذي ارتديته يوم العيد وأنت في شهرك الخامس.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/11 الساعة 03:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/11 الساعة 03:14 بتوقيت غرينتش

عندما ننجب تتدفق ذكريات قد نسيناها.. ربما يُذكّرُك عقلك الباطن بيوم ولادتك، ترسم مشهداً متقناً للحكايات التي سمعتها من أمك وخالتك وجدتك عن اليوم الذي أتيت فيه إلى الحياة، ربما أيضاً تتخيل ألوان ثيابك الأولى كما حكتها لك جارتك التي كلما رأتك أخبرتك أن ابنها "تامر" يملك "سلوبيتا" كالذي ارتديته يوم العيد وأنت في شهرك الخامس.

تخبرك أختك الكبرى أنها كانت تغني الأغنية "الفلانية" لك، فترتبط عاطفياً بها وقد تسمع صدى صوتها الحنون وهو يهدهد بكلماتها فتنام سعيداً مطمئناً.

نرتبط برائحة البودرة التي كانت تُغرقنا فيها أمهاتنا بعد حمّام ساخن، نعشق ملمس الزيت الذي كان يحمينا من الالتهابات، ورغوة الشامبو الناعمة الذي صُنع خصيصاً لعيوننا الرقيقة، فاجأتني نفسي منذ ولادة ابنتي بالأغاني التي كانت تدندنها أمي لي، أمارس طقوس "دبح جوزين حمام" بنفسٍ راضية حتى صغيرتي "تنام"، أتذكر أن "الولاد جم ضربوها ولا خفوش من أبوها" ولا أدري حتى الآن لمَ لمْ يخافوا من أبيها!

العجيب أن قرابين "الحمام" قد أفلحت في كثير من الأحيان لتجعلها تنام في سلام بعد أن فشلت جميع المحاولات الأخرى.

ترتبط الرائعة "عفاف راضي" في ذهني دائماً بالطفولة الجميلة التي أتمنى أن أعود إليها، يستحضر صوتها "الشمّوسة" و"النادي" والقوارب الشراعية الجميلة وقت "العصرية"، وقت الطعام وأمي تلاعبني "همّ النّم يا روحي"، أو وهي تشجعني على اكتساب مهارات جديدة؛ لكي أصفق لها "سوسة يللا صقفي سوسة"، وكأنها وضعت الـ"سوسة" شيفرة متعارف عليها بين جميع الأمهات التي تعني "التصفيق"!

تُذكّرني أيضاً بزوجة خال لي، امرأة في منتهى الجمال، رقيقة رقة أميرات ديزني، ابتسامتها تشع سحراً ما غير مفهوم، عيناها تبعثان على الراحة، رغم أنها تُوفيت وأنا صغيرة جداً وذكرياتي عنها قليلة، فإن صوتها محفور في ذاكرتي بشكل أو بآخر، لا أتذكر بالتحديد أياً من كلماتها، ولكني أتذكر صوتها الرقيق المشابه لـ"سنووايت" وهي تغني للعصافير، كان منزلها على أية حال مليئاً بالغزلان، أحياناً كنت أظن أن هناك ثلجاً ما يهبط في بيتها وأنها تتفنن في صنع "رجل الثلج" لأبنائها، وأن هناك قصراً جليدياً ضخماً يتزلجون فيه، كنتُ أرى سُحباً وردية اللون تقتطف منها قطعاً صغيرة لتصنع لابنتها "غزل بنات"، كانت حقاً وفعلاً "بياض الثلج"… أميرة جميلة تستقبلنا كل صباح بصوت ناعم "دي الشمّوسة طلّة طلّة وبتنده علينا"، اعتادت على أن تأتيني في الأحلام… كانت تُربت عليّ أثناء حملي، تُقاطع الكوابيس التي كانت تُباغتني على حينِ قلقٍ وخوف من يوم الولادة المنتظر، شعرها الجميل وعيناها الخضراوين وابتسامة صفّي لؤلؤٍ منتظم.. وصوت هادئ "لا تقلقي كل شيء سيكون على ما يرام"… وكل شيء كان على ما يرام!

لم يَلِق بها سوى أن تكون ذات رداء ورديّ، تَعِيش في حديقة صغيرة، تصنع الكعك المُكوّب لصغيريْها، تُمّشط شعر ابنتها وتُلبسها فساتين "منفوشة"، تنتظر ابنها على جواد أبيض حاملاً عروسهِ الجميلة، تُشعل المدفأة وتحتسي كوب كاكاو دافئاً، تستمع في صمت إلى أصوات النهر، وتَعِيش في سلام.

ربما لـ"صباح" المساحة الأكبر في ذكريات العقل الباطن، دلالها وأنوثتها وحبها وعشقها يتجلى جلال العابد لهواه وهي تغني "حبيبة أمها ياخواتي بحبها…. ياخواتتتتتيييييييييي… يا خواااتتتتتيييييي…. يا خواتي بحبها".

أمي… وهي الأنثى الأكثر جمالاً ودلالاً في عينيّ، أتذكرها بوجهها الدائري الصغير وغمّازتيها المُبهِرَتين وابتسامة ثغرها الأشبه ببيارق السيوف، دغدغة أصبعها لأنفي الصغير وهي تضغط بمخارج حروفها "يا خواااااااتتتتتتتي" ثم تتمايل برأسها وتقول بهدوء "بحبها"، ربما تفوقتُ في الدراسة؛ لأنها لم تتوقف عن غناء "حبيبتي بكرة تكبر وتروح المدرسة… ويقولوا بنتي شاطرة ونمرها كويسة".

كانت تُدندن بمنتهى السعادة والعطاء "أيام عمري اللي فاتت عشانك عشتهم… وأيام عمري اللي جاية عشانك حوشتهم"، فأتعجب أي عطاء يفوق عطاء أمي عندما تبذل أيام عمرها الفائتة وتقرر فناء الأيام الباقية فقط لي.

لا أنسى الثوب "المُشجّر" التي كانت ما إن ترتديه حتى تذكرني بالأميرة "ديانا"، رشاقتها، قوامها الممشوق، كانوا يقولون عنها "غزال"، ولحسن الحظ وُلدتُ ابنة لتلك "الغزالة" الجميلة، ربما اختلفت فقط عن "ديانا" في غطاء الشعر الحريري المائل إلى الاخضرار الذي استطعت في يوم من الأيام أن أصل إليه بعد أن زاد طولي قليلاً وأحضرته من خزانتها السرية التي يُمنع أياً من كان بأن يمر من أمامها.. وارتديته، حملتُ حقيبتها الصغيرة الأنيقة التي لم تملك مثلها سوى الأميرة "فوزية" ابنة "فاروق"، مع "مروحة" اليد القادمة من العصر الفيكتوري المبالغ في أناقته وكلاسيكيته، ثم سرتُ في الشقة أتبختر كالملكات أو إذا صح التعبير أتبختر كما تفعل الـ"فاطمة"، كما تفعل تلك السيدة ذات الوجه الدائري والغمّازتين والحقيبة الفيكتورية الصغيرة وصوت رقيق يناديني "صُو.. بتعملي إيه يا صُو".

أتمنى عندما تبلغ ابنتي الـ17 وأبدأ في غناء "أمورتي الحلوة بقت طعمة ولها سحر جديد" أن أكون في نفس رشاقة وجمال وأناقة "صباح"، وأن يتحمل قوامي ارتداء تلك التنورة الصفراء القصيرة، وأن يكون هناك بعض الشعر الذي أستطيع أن أصنع منه تلك التسريحة الجميلة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد