في البداية أود التوضيح أن هذه المقالة ستتناول صورة العراق في المدرك الاستراتيجي الأميركي، بمعنى أن الآراء المطروحة تعبّر عن وجهة النظر الأميركية حول التطورات الراهنة في العراق.
بهذا الصدد، منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي بات العراق يحتل مكانة مميزة في سلم أولويات الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، إلا أن عام 1979 شهد نقلة نوعية في مكانة العراق في المدرك الأميركي.
قد يتساءل البعض: لماذا 1979؟ الجواب يكمن في حدثين مهمين: الأول يتعلق بالغزو السوفييتي لأفغانستان، والثاني يتعلق بالثورة الإسلامية في إيران لاحقاً.
وكلما تصاعد مستوى العداء بين أميركا وإيران زادت أهمية العراق في الاستراتيجية الأميركية، إلا أن هذا الأمر قد تغيَّر تدريجياً لا سيما بسبب التقلبات الكارثية التي شهدتها السياسة الخارجية للنظام السابق، وتعضدت المشكلة على أثر الاجتياح العراقي للكويت عام 1990.
إلا أن ما يهمنا في هذه المقالة يتعلق بوضع العراق في المدرك الاستراتيجي الأميركي بعد 2003، لا سيما أن الولايات المتحدة قد تدخلت عسكرياً من أجل بناء نظام ديمقراطي في العراق (حسب الادعاءات الأميركية)، إلا أن ما يلاحظ أن الفجوة في العلاقات بين العراق والولايات المتحدة قد تصاعدت تدريجياً حتى يومنا هذا.
ويرى البعض أن هنالك عدة أسباب أدت إلى ذلك، من أهمها الثقل الاستراتيجي الإيراني في العمق العراقي، لا سيما في عملية صنع القرار.
بهذا الصدد، أود الإشارة إلى عدد من المدركات في الفكر الأميركي تجاه العراق، وهي كالآتي:
– شلل في عملية المصالحة الوطنية والسلم الأمني.
– أزمة الهوية الوطنية وتصاعد الطائفية.
– أزمة في الثقافة السياسية الطاردة للديمقراطية.
– تصاعد خطر التطرف في العراق لا سيما بسبب عسكرة المجتمع.
في ظل هذه المدركات بدأت بعض الطروحات تجد صداها في الولايات المتحدة؛ إذ يرى David Wurmser الحاجة لحكومة مركزية قوية قد تكون حلاً في العراق بغض النظر عن مدى احترامها للإجراءات الدستورية وللآليات الديمقراطية طالما أنها قريبة من الحكومة الأميركية وتضمن مصالحها.
بالمقابل يجد Kenneth Pollack أن أية حكومة قوية في العراق ستشكل خطراً على الاستقرار الإقليمي.
يختلف كثيرون في الرأي مع بولاك؛ إذ يؤكدون أن العراق في وضعه الحالي يشكل خطراً على المصالح الأميركية والاستقرار في المنطقة، لا سيما أن أي تدخل أميركي غير محسوب قد تكون له عواقب لا تحمد عقباها، لا سيما مع تصاعد خطر الإرهاب ودور الميليشيات في الساحة العراقية.
يعد العراق في المدرك الأميركي بيئة طاردة للدور الأميركي، ويتهمون بهذا الصدد النخبة السياسية التي تفضل التقارب مع قوى إقليمية معادية للمصالح الأميركية، وتحديداً إيران.
وكلما تصاعد الدور الإيراني ألقى بظلاله على الوجود الأميركي في العراق وعلى الاستقرار الداخلي؛ إذ يجد عدد من الاستراتيجيين أن الحكومة الشيعية (حسب وصفهم) عملت على إقصاء السنَّة من العملية السياسية، لا سيما مع تصاعد التوتر مع إقليم كردستان، الأمر الذي أدى إلى نتائج كارثية كما هو الحال في أزمة داعش 2014؛ إذ جاء تصريح الرئيس الأميركي السابق أوباما في هذا السياق من خلال تأكيده في خطابه الأول بعد سقوط الموصل في يوينو/حزيران 2014 أن هذه الأزمة ما هي إلا دليل على حالة الخلاف السياسي وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع العراقي، وتصاعد الحراك الداعي إلى عسكرة المجتمع.
تصاعد الصراع الطائفي ودور الميليشيات العابرة للحدود يضيف بعداً جديداً في الأزمة العراقية لا يقل أهمية عن خطر الإرهاب.
الأمر الذي يدفع دول الإقليم لاغتنام الفرصة من أجل التدخل في العراق، الأمر الذي يخلق أرضية خصبة لخلق صراع في محاور في التوازن الاستراتيجي الإقليمي، هذه المحاور الاستراتيجية تأخذ بُعدين: الأول استراتيجي، والثاني طائفي؛ إذ تجد الولايات المتحدة نفسها متراصة مع المحور الإقليمي ذي الصبغة السنية الذي يجمع تركيا مع دول الخليج العربي المتضاد لمحور شيعي يجمع كلاً من إيران، وسوريا، المتحالف مع روسيا الاتحادية.
ونستطيع ملاحظة أن ما يقرب الولايات المتحدة من هذا المحور هو حالة العداء مع إيران، القوة الإقليمية البارزة التي بدورها دخلت في حالة من الصراع مع الولايات المتحدة، في ظل هذا الصراع يعد العراق ساحة خصبة لاستضافته وتنميته بالشكل الذي لا يؤثر على الاستقرار في العراق فحسب، بل قد ينعكس على الخارطة السياسية في المنطقة أو قد يؤدي إلى عودة العراق للحكم الديكتاتوري، وبالضرورة فشل التجربة الديمقراطية التي بنت الولايات المتحدة آمالها عليها من أجل شرق أوسط جديد.
باختصار، نستطيع أن نستنتج أن الفكر الأميركي الحالي يصنف العراق على أنه "دولة فاشلة" تتجه نحو جادة الانهيار، ولعدة أسباب من أهمها:
– فشل المؤسسات الأمنية في حفظ الأمن وتعزيز الاستقرار.
– الفشل المؤسساتي والعجز عن توفير الخدمات.
– أزمة واضحة في الفكر التعددي وغياب الاعتدال السياسي في السلوك العام، سواء الفردي، أو الجماعي أو الحكومي.
– غياب العدالة الاجتماعية.
– عدم قدرة الحكومة على احتكار توظيف القوة الشرعية لحفظ القانون بسبب عسكرة المجتمع وتصاعد دور الميليشيات.
ختاماً، تنظر العين الأميركية للعراق بالتوجس بسبب تعقد الأوضاع فيه، فضلاً عن تصاعد الدور الإيراني في العمق العراقي، وحالة الضعف التي تعاني منها المؤسسات الرسمية.
يؤشر هذا الوضع إلى حالة الوهن التي تعاني منها الحكومة العراقية التي لا تستطيع الإيفاء بكل التزاماتها تجاه المجتمع الدولي عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً.
مع هذا يبقى الأمل موجوداً في عراق ديمقراطي موحد من خلال الالتزام بالدستور، والعمل على تشجيع ثقافة المشاركة، واحترام التعددية من أجل تعزيز دور المؤسسات الرسمية، وقدرتها في مواجهة الأزمة السياسية والأمنية التي يواجهها العراق.
ما يهم الولايات المتحدة هو وجود حكومة عراقية قوية بالقدر الكافي لضمان التزامات الأخيرة تجاه الولايات المتحدة، وخلق فرص جديدة للتعاون المشترك بين البلدين، مع تقليص العمق الإيراني في الساحة العراقية؛ إذ إن العراق ومنذ أكثر من أربعين عاماً لم يخرج من دائرة التأثير الإيراني على عملية صنع الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وفي ظل هذا التأثير وتصاعد خطورة الإرهاب باتت الولايات المتحدة أمام ثلاثة مشاهد في تعاملها مع العراق:
– الأول: مشهد التقدم البطيء، الذي يدعو إلى توظيف خطة طويلة الأمد تتحلى بالصبر والحكمة بهدف تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، لا سيما على المستوى الاقتصادي والعمل على تقوية المؤسسات المدنية في العراق.
– الثاني: مشهد الاستعداد لانهيار العراق، الذي قد يدفع الإدارة الأميركية لتعزيز وجودها على الساحة العراقية، وترك بصمة قوية في سيناريو ما بعد داعش في المناطق المحررة، وذلك لضمان مصالحها في المنطقة لا سيما إذا ما انزلق العراق في حرب أهلية أو تطورت الأمور إلى تفكيكه لدويلات صغيرة.
وضمن هذا السيناريو سيكون مناطق النفوذ الأميركي في الغرب والشمال الغربي من العراق لقطع الطريق أمام إيران من جهة، ولضمان عدم خروج هذا السيناريو من سيطرتها، بما قد يوفر الظروف المناسبة لولادة مكون سياسي جديد ذي طابع إسلامي أو عروبي قومي من جهة أخرى.
– الثالث: الابتعاد التدريجي عن العراق الذي قد لا يجد آذاناً مصغية في عملية صنع القرار في الولايات المتحدة.
نعتقد أن المشهد الأقرب للواقع يمزج ما بين السيناريوهَين الأول والثاني، وذلك من خلال رغبة الولايات المتحدة في دعم عراق موحد ذي حكومة قوية تضمن استقرار العراق، وتؤمن فرص التلاقي معها، فضلاً عن استمرار الولايات المتحدة في سياسة الضغط المتوازن على الحكومة العراقية لضمان ابتعادها لأكبر قدر ممكن عن إيران؛ لذلك قد تعمد الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة إلى إطلاق مبادرات تعاونية جديدة تجاه العراق، وعلى مختلف المحاور، من بينها تعزيز الاستثمار، والدعم العسكري والاستخباراتي للعراق في حربه ضد الإرهاب، وإضافة دفعة متوازنة للدور العراقي في بيئته الإقليمية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.