في خضم تساؤلات مثارة في الغرب عن الدوافع الكامنة وراء قيام (البعض من) اللاجئين العرب في أوروبا بأعمال تفجير وطعن وتحرُّش في مجتمعات فتحت أبوابها على مصراعيها لهم وآوتهم بعد أن لفظتهم مدنهم وقراهم المستعرة بنيران الصراع والفتن الطائفية، وفي توقيت عجيب تزامن مع الذكرى السادسة والعشرين لغزو العراق للكويت، جاءت مشاهدتي لفيلم "ذيب" للمخرج الأردني (بريطاني المولد والجنسية) ناجي أبو نوّار ضمن عروض مهرجان الفيلم العالمي في أوكلاند لتثير في داخلي المزيد من الحيرة وعلامات الاستفهام حول القيم الجمعية لبني "جنسي" رغم ضبابية ما فتئت تكتنف مفردة "العروبة" التي شاع استخدامها في مرحلة المد القومي الناصري.
ثم شرعت الشعوب تتنصّل منها تباعاً بعد أفول نجمها، بحثاً عن جذور ما بين رافدينية أو فرعونية أو فينيقية أو بربرية… إلخ، أو ربما نبذ كل تلك الهويات والانغماس عوضاً عنها في متاهة الولاءات الدينية والمذهبية.
أهمية فيلم "ذيب"، من وجهة نظري، تكمن في أنه عاد بنا إلى البادية (مهد العروبة)، وجعلنا نغوص في ملامح حياة أفرادها في فترة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط شهدت اندلاع الشرارات الأول لما عُرف فيما بعد بالثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين بن علي تمرداً على سلطة الدولة العثمانية.. كتب السيناريو مخرج العمل بالمشاركة مع المنتج الأردني (أميركي الجنسية) باسل غندور، واستعانا في تنفيذه بعدد من الفنانين والتقنيين الأجانب، لعل من أهمهم مدير التصوير النمساوي وولفغانغ ثالر الذي استطاع بمهارة وحس جمالي مميز أن ينقل لنا سحر وجلال طبيعة وادي رم (في جنوب الأردن) فكانت مشاهد الفيلم بشهادة الكثير من النقاد أحد أبرز عناصر بنائه الفني، إن لم تكن أبرزها على الإطلاق.
ثمة ميزة أخرى تحسب لمخرج العمل وهي استعاضته عن الممثلين المحترفين (مع بعض الاستثناءات، كالممثل جاك فوكس الذي أدى دور الضابط البريطاني) بسكان البادية للقيام بأدوار شخوص قصته، بما في ذلك شخصية الفيلم المحورية التي لعبها بعفوية لافتة جاسر عيد الحويطات بعد خضوعه لتدريب مكثف ضمن ورش تمثيل امتدت لشهور كثيرة.
قرأت الكثير من الحوارات التي أجريت مع المخرج أبو نوّار، استفاض فيها بالحديث عن التحديات والصعوبات التي واجهته وطاقم العمل خلال تصوير الفيلم وإعداد ممثليه، وهو مجهود هائل ومحمود بلا شك، لكن القليل فقط قد ذُكر عن فكر أصحاب العمل حتى يخيل للباحث أن كاتبي السيناريو قد أسسا البناء السردي في مرحلة تلت اختيارهما لموقع التصوير، وهو أمر لا يعيب الفيلم أو ينتقص من قيمته (إن كان حقيقياً)، لكنه يفسر للمشاهد شعوراً بارتجال بعض مسارات الأحداث فيه، خصوصاً مشهد النهاية الذي استفزني لكتابة هذه المراجعة.
استهل أبو نوّار عمله بمشاهد للطفل ذيب مع شقيقه الأكبر، وهو يدربه على الرماية، ثم عودتهما لمضارب القبيلة التي يفد عليها رجلان غريبان طلبا للمأوى والعون بتوصية من الشريف حسين، أحدهما ضابط بريطاني، والآخر مرافقه العربي، يقوم البدو بنحر وطهي ذبيحة للضيفين، كما جرى العرف (يأنف الضابط من تناول اللحم ويتظاهر بالشبع، لكن ذيب يرصد تعابير وجهه في مشهد صامت بليغ)… يُعهد إلى أخ ذيب بمرافقة الرجلين إلى وجهتهما المنشودة في الصباح التالي، ويصر ذيب على اللحاق بالركب، الأمر الذي يتسبب بحدوث بعض المشكلات في البدء ثم يصل الجميع إلى بئر ماء عذب فتقوم مجموعة من قطاع الطرق بمهاجمتهم عنده وقتل الضابط ومرافقه فيما يلوذ ذيب وشقيقه بالجبال هرباً من الخطر المحدّق بهما.
"سلّموا، تسلموا!" يتردّد نداء اللصوص للأخوين، لكن شقيق ذيب يأبى الخضوع ويقوم بإطلاق النار على المهاجمين فترديه رصاصة من بندقية أحدهم قتيلا، تاركا ذيب لمواجهة مصيره لوحده في تلك البقعة القصية من الصحراء؛ حيث يمضي ليلته مختبئاً في البئر ثم يقوم بكيل التراب على جسد أخيه في الصباح قبل أن يسقط مغشياً عليه من الإعياء… في النصف الثاني من الفيلم نشهد عودة أحد المهاجمين مصاباً على ظهر دابته، وندرك من خلال الحوار المقتضب الذي يدور بينه وبين ذيب بأن اللصوص أدلاء سابقون للحجيج، يعانون من ضنك العيش بعد افتتاح خط السكة الحديدية الذي تركهم بلا عمل أو مورد رزق، فصار الواحد منهم يقتل أخاه والغريب من أجل المال.
شيئاً فشيئاً، تتوطد عرى العلاقة بين الجريح والصبي إلى ما يقارب صداقة يشوبها الحذر والتوجّس، وتحكمها غريزة البقاء والرغبة في النجاة، يشد البدويان رحالهما من جديد ويتعرّضان لمخاطر وعقبات يتجاوزانها بمؤازرة أحدهما الآخر، نصغي للرجل وهو ينشد في الليل، مناجياً ذيب بألا يغدر به هو أيضاً، فلم يتبق عنده أحد يثق فيه سواه، صمت ذيب يوحي لنا بأن العداوة بينهما قد انتهت واستوت كفتا الميزان، روح الصبي التي أنقذها اللص الجريح من الموت جوعاً وعطشاً هي الدية لروح شقيقه التي أزهقت… لكن هل يُؤمن مكر الذئاب؟
تصل الرحلة (الفيلم) بنا إلى محطة القطار، حيث يترجّل الرجل لبيع غنائمه إلى الضابط المقيم فيها، ويطلب من ذيب أن ينتظره في الخارج، لكن الأخير (كما هي عادته) يتسلل إلى داخل المبنى المتهالك (في دلالة على تصدّع سلطان الدولة العثمانية وانهيارها الوشيك)، فيشاهد رفيقه وهو يقبض ثمن بضاعته المسروقة، يعلو الغضب وجه ذيب (فجأة) فيوجه مسدسه نحو صدر الرجل الذي أمضى معه الأيام والليالي السابقة ويرديه قتيلاً، في مشهد رافقته شهقات كل من كان موجوداً معي في صالة السينما، وتلاه صمت وصدمة، بالنسبة لي، كانت تلك أول مرة (وقد تكون سابقة من نوعها) أشاهد فيها طفلاً يقترف القتل "العمد" على الشاشة، لا دفاعاً عن النفس في خضم معركة ولا حماية لأرض أو عرض من الاغتصاب، التبرير الوحيد الذي يسوقه الفيلم لنا كمشاهدين لارتكاب الجريمة أن ذيباً قد ثأر لدم أخيه.. الآن؟!
سمعت وقرأت الكثير عن العمل الحائز على عدد من الترشيحات والجوائز المرموقة في المحافل السينمائية العالمية، آخرها (وربما أبرزها، بالإضافة لجائزتي مهرجان فينيسيا الإيطالي والبافتا البريطانية) منافسته للفوز بأوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية في الدورة الأخيرة للمهرجان الأميركي العتيد، كان ذلك (بالإضافة إلى توصية من أصدقاء لي معنيين بالتصوير الفوتوغرافي) سبب سعيي الحثيث لمشاهدة "ذيب" واحتفائي بقدومه إلى شواطئ نيوزيلندا البعيدة، لكنني خرجت من مبنى العرض واجماً، ناقماً على مخرج الفيلم بسبب نهايته (المُنفِرة وغير الأخلاقية).
أجّلت الكتابة عن الفيلم لأسابيع خشية أن يأتي رأيي عنه انفعالياً حتى قرأت أخيراً عن نية الهيئة الملكية للأفلام في الأردن إقامة عرض (إضافي) له في مقرها في عمّان، احتفالاً بمئوية الثورة العربية…
المفارقة هنا أن الهيئة (كما قرأت) كانت قد رفضت تمويل المشروع في البداية، لكنها عادت كي تقفز على نجاحاته العالمية (في براغماتية معهودة لكثير من المؤسسات الثقافية في الأردن، التي بين سعيها للحصول على أموال المانحين في الغرب وحذرها من استفزاز داخل محافظ وصارم، تبدو كمن يخطو على حبل مشدود، مُعلّق في الفضاء) بعد تمكّن مخرجه من الحصول على دعم سخي من سويسرا وبعض دول الخليج، وهو أمر مثير للتساؤلات بحد ذاته فالمموّل الخليجي لا يقل حساسية تجاه النظام القبلي عن صنوه الأردني، بل قد يفوقه بمراحل، فكيف استطاع ناجي أبو نوّار أن يقنعه بدعم فيلمه الذي يُعرّي مساوئ البداوة والعشائرية؟
لا أحد يدري ما الذي كان يدور في أذهان صنّاع العمل عندما استقروا على صيغة حبكته النهائية، قد يكونون قصدوا بالفعل تسليط الضوء على ما بلي من قيم لا تزال تتحكم في مناحي سلوك البعض منا كالثأر والحقد والضغينة وممالأة القوي حتى تسنح الفرصة للإجهاز عليه، رغم حقيقة أنها جميعاً غرائز وآليات بقاء اكتسبتها البشرية عبر عصورها وهي ليست بأي حال من الأحوال حكراً على البدو أو العرب، لكن أليس وارداً أن تكون غايتهم من وراء مشهد القتل مجرد ضخ جرعة إضافية من الإثارة؟ تبقى احتمالية أن أكون قد ذهبت بعيداً في تحليلي لمضمون العمل، متأثراً بسيل من التقارير الصحفية والأشرطة المصوّرة عن طفولة يتم اغتيالها ألف مرة في اليوم في العالم العربي، آخرها مشهد الطفل السوري عمران دقنيش، مصدوماً ومضمخاً بدمائه، بعد انتشاله من بين أنقاض منزل أهله المتهدّم في حلب، أو ما تداولته وسائل الإعلام عن قيام داعش باستخدام أطفال لم يبلغوا العاشرة من العمر (في سن ذيب في الفيلم)، لتنفيذ عمليات إعدام مقززة بحق الرهائن والمحتجزين.
بصرف النظر عن وصف بعض النقاد الغربيين للفيلم بالوسترن البدوي (وهو ما لم ينفه مخرجه) ومآخذ أخرى لي عليه كتبنيه منظوراً استشراقياً مُستهلكاً (مُموّهاً بحضور كثيف للذباب وطنينه الذي كان مؤثراً صوتياً بارزاً على امتداد الفيلم)، وتغييبه غير المنطقي (أو المقبول) للعنصر النسائي فكان حضور المرأة الوحيد من خلال صورة حبيبة الضابط البريطاني، رغم أنه كان من المناسب مثلاً أن تراود (الطفل) ذيب في الليلة التي أمضاها في البئر أحلام عن والدته…
في نهاية المطاف، كل منتج فني عرضة للنقد وقابل للقراءة من زوايا مختلفة وفيلم "ذيب" لا يشذ عن القاعدة، بل يؤكّدها بشدة، على الرغم من ذلك، يُحسب للمخرج أبو نوّار تمكّنه من جعل المتلقي يستحضر عمله وتفاصيله ويمعن التفكير في مدلولاتها حتى بعد مغادرته لصالة العرض بأيام وأسابيع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.