في إحدى الزوايا التي نأت بنفسها عن ضوضاء المدينة، تتربع ولاية "أوردو"، أو كما يطلقون عليها "لؤلؤة البحر الأسود" أو "جنة الله في الأرض"، الواقعة شرق البحر الأسود شمال تركيا على مساحات واسعة وسط سلاسل الجبال الباسقة، تحاكي بتضاريسها الجنان، وتخلب أنهارها وبحيراتها الأبصار وتأسر القلوب.
تبدو "أوردو" للوهلة الأولى مثل لوحة فنية استدعى راسمها الخيال وشحذ ريشته بعض سنين كي تخرج بأبهى حلة، فالقرى الموزعة بأناقة على سفوح الجبال، والسهول المكسوة بالأخضر اليانع، والأنهار الحالية، والبحيرات التي تنبض حياة، وعجائز يحملن الحطب على أكتافهن يبتسمن بهدوء وجمال منبعه سهولة الحياة، ومتعة العيش، كل تلك معالم، من شأنها أن تحمل المرء على إعادة التفكير ألف مرّة، بسبب مكوثه في شوارع المدينة المزدحمة وأحيائها.
من أعلى تلة في أوردو "جوزتابيه"؛ حيث تستطيع أن تمارس رياضة القفز الحر بالمظلة حيث تشاهد سلسلة من القرى الريفية العريقة، تحيطها المزارع من كل حدب وصوب، مشهد يجعلك تتمنى الدنو من مداخنها، أو النزول في فنائها، لاقتطاع شيء من خبز العجائز السمحة، ذاك الذي تنطلق روائحه من المداخن، تعبق بالجو، ترسم بساطة الحياة وسهولتها.
في أوردو، يبدو كل شيء بسيطاً خالياً من التكلف، هناك لا يبدو أن النّاس بحاجة إلى بذل الكثير من العناء كي يحظوا بحياة سعيدة، الكرم سيّد الموقف دائماً، فنادراً ما تمر عن فلاح لا يقدم لك ثمرة طازجة، أو شربة من حليب، البلدة تتحوّل مع مرور الوقت، كما شاهدت، إلى ملجأ لمن لوّثت المدينة أيامهم، ولطخت حياتها بعضاً من حكاياتهم، هناك تنفض عن نفسك عناء العيش في ظل سباق محموم على الحياة، سباق المدينة المتحضرة الذي يبنى على قوانين لا تكاد تختلف عن قوانين الغاب، حياة لا تخلو من الاستغلال، والتسلق، والتملق، والتعب والإرهاق من أجل مشروع واحد.. البحث عن السعادة، فحسب.
في ظلال الأشجار، وبين تلك المنازل البسيطة والهواء العليل، وبين بسمات النّاس جميعاً، واحترام بعضهم لبعض، يعيد المرء ترتيب أوراقه من جديد، ها هم حصلوا على السعادة بعيداً عن الضجيج، السعادة تبدو لأول مرّة ماثلة أمامي على شكل فكرة، لا يكمن تحقيقها في الاستعجال، والعمل المتواصل، والدسائس ربما والمؤامرات، فكل ما تعانيه المدينة ليس أكثر من حرص البعض على عدم الموت قبل أن يحظى بقسط من السعادة، التي تُخاض المعارك من أجلها وتسفك الدماء.. ولا تُنال.
في أوردو، صارت البساطة عقداً اجتماعياً يسير على دربه الجميع، لم أكد أدخل منزلاً أو أحضر مجلساً إلا وسمعت الأحاديث حول تواضع والي البلدة "عرفان بلقاني أوغلو" وهمته، ومشاريعه الإصلاحية، ذلك الرجل الخمسيني الذي درج اسمه على كل لسان.
الوالي الذي يحظى بشعبية واسعة النطاق، يحرص على استمرار علاقاته بالإعلاميين، الذين يعتقد أنهم ركن أساسي في مسيرة الإعمار وجذب السياح والمستثمرين، كما أنه يعد رائد مواقع التواصل الاجتماعي بين نظرائه؛ حيث ينشر كل إنجازاته بالولاية، مزودة بصور وإحصاءات لجذب السياح والمستثمرين، خاصة العرب.
بلقاني أوغلو الذي استضافنا في منزله المتواضع برفقة عدد من الإعلاميين العرب والأتراك بعد جولة في أزقة بعض القرى وحواريها، أكد أنه يسعى بشكل متواصل إلى تحقيق نهضة اقتصادية وعمرانية في المنطقة؛ كي تنافس أوردو جاراتها من الولايات الأخرى المطلة على البحر الأسود؛ حيث قال: "فهمي لمنصبي هو أنني عُينت موظفاً من أجل خدمة المواطنين فحسب"، وسكب شيئاً من الشاي التركي الطازج المشهور.
أوردو الساحرة وبين أشجار البندق التي تنتج ما يقارب 600 ألف طن، أي ما يعادل ثلاثة أرباع الإنتاج العالمي للبندق سنوياً، وعلى امتداد السهول والجبال والقرى، لا بد أن ترى عدداً من السياح الذين يتوافدون إلى لؤلؤة البحر الأسود ممن الذين قضوا أعمارهم بحثاً عن السعادة في أحياء المدن ومكاتبها وعماراتها الشاهقة، يقصدون الأرياف؛ ليحصلوا على قسط منها، بين بسطاء فهموا الدّرس جيداً وأتقنوا فنون الشراكة والحياة القائمة على مبدأ التعاون والتفاهم، والبسمة الدائمة، كما قالت تلك الفلاحة اليانعة، سألتها عن سر البسمة الدائمة على وجنيتها فأجابت:
هو دستور القرية الذي ننشأ عليه منذ الصغر، ورثنا من آبائنا وأجدادنا ما مفاده أنّ: "أسرار السعادة بين شفتيك، فابتسم ما استطعت".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.