لو تكلَّمنا عن حقبة تاريخ الصحافة والإعلام العراقي لرأيناه مبنياً على أساس وطني يخدم الحقيقة الكاملة دون تسييس، منذ أن انطلقت واحة الإعلام في العراق جريدة "جورنال عراق" أول جريدة عراقية وعربية، صدرت في السنة الأولى من حكم الوالي داود باشا عام 1816 بغداد ببداية ظهور أول حقبة صحفية، ومنذ أن تأسس أول تلفزيون في الوطن العربي والشرق الأوسط هو تلفزيون العراق عام 1956، كانت الصحافة والإعلام تسير بخطى ثابتة نحو المهنية والثوابت الصحفية البدائية المعمول بها في البلد، وتطورت الصحافة والإعلام العراقي مع تطور الثورات والحروب التي خاضها العراق إبان حكمه السابق، واكتسبت خبرة كافية نتيجةً للظروف التي تماشت في البلاد، بعد سقوط العراق عام 2003 ودخول الغزو الأميركي وتغيير حكمه انقلبت الصحافة والإعلام رأساً على عقب، دخلت الصحافة مدخل السياسة، مدخل التحيّز، مدخل التمييز، مدخل التزييف، دخلت الصحافة الطرق الوعرة للتحزّب والتشدق بطرف دون الطرف الآخر، وإغماض عين والنظر بالعين الأخرى، والصيد بالماء العكر، إعلام بغداد، إعلام الــ70 مؤسسة إعلامية وصحفية، من إذاعات وصحف ومجلات وجرائد وتلفزيون ووكالات إخبارية ومحطات خاصة، أغلبها وبشكل كامل تَصُب لصالح أحزاب متنفذة اليوم في السلطة، وأغلب انتمائها إيراني بشكل واضح وصريح، يخشى الصحفي المستقل في بغداد من النظر بمواضيع تفضي إلى الوصول إلى جملة من مفاهيم حقيقية، يخشى الصحفي المستقل "السُنّي"، إن أصحّ التعبير، أن ينطق الحياد في بلدٍ ضاعت فيه قيم الحياد وطغت فيه قيم الاستعباد المباشر للصحفي أو الإعلامي، كثيرة هي عمليات الاغتيالات والاختطاف لدى الصحفيين والإعلاميين في بغداد وباقي المُدن العراقية، والسبب؟ هو الولوج بأخبار حقيقية تمس وجودهم من جهة أو الانتماء لطائفة أهل السُنّة صحفياً كان أم إعلامياً من جهة أخرى.
فيما أشار مرصد الحريات في بغداد في تقريرٍ له إلى أن عدد قتلى الصحفيين والإعلاميين منذ 2003 وحتى اليوم بلغ 429 صحفياً ومساعداً فنياً، أغلب تلك الاغتيالات كانت بدوافع طائفية، الهدف منها النيل من الصوت المستقل الذي يعمل بجد في البلاد، وبعضها أيضاً قُتل في ظروف غامضة.
وصنفت لجنة حماية الصحفيين الدولية العراق، في تقريرها الذي أصدرته في ديسمبر/كانون الأول من السنة الماضية، ثاني أخطر دولة على الصحفيين، وهذا يُدل على أن قتلى الصحافة والإعلام تكون بطُرق عدّة، منها اغتيالٌ على يد الميليشيات المتنفذة اليوم في بغداد، وبعضها بالمعارك الضارية الدائرة اليوم في الجبهات ضد "تنظيم الدولة"، كل هذه المؤشرات تخلق جواً من عدم الطمأنينة لدى الصحفي في تأدية عمله.
في حقيقة الأمر أود القول بأن الطائفية الإعلامية في بغداد بالتحديد طغت على كل الاتجاهات، جرت عمليات اختطاف مُمنهج من الميليشيات الموجودة بلباس وصِفة وهيئة حكومية، والسبب كتابة رأي أو مقال أو منشور معين على مواقع التواصل الاجتماعي أو بصحيفة إلكترونية ضد الحكومة وحاشيتها من أحزاب وشخصيات دينية، وهذا بحد ذاته تقييد لحرية الصحافة والإعلام لدى كل المكونات، والدليل على ذلك ما رأيناه قبل أشهر ليست بالقليلة من اختطاف لإحدى الصحفيات لمنشور نشرته في مواقع التواصل الاجتماعي تنتقد فيه الأجهزة الأمنية في مقالها، وكتبت فيه عن الاستهتار بالسلاح في المدارس ودمج الميليشيات بالأجهزة الأمنية، فاستهتر المسلحون عليها واختطفوها؛ لأنها قاومت المستهترين بكلمة، وأدانت في مقالها قيام ضابط في وزارة الداخلية العراقية بالاعتداء على مديرة مدرسة في جنوب العراق.
وسبق للصحفية أن عملت مراسلة لصحيفة الشرق الأوسط السعودية الصادرة في لندن، وتعرضت هذه الصحيفة لانتقادات واسعة ورفع دعوى قضائية ضدها، إثر نشر الصحيفة تقريراً عن منظمة الصحة العالمية فيه معلومات عن "زيادة حالات الحمل غير الشرعي خلال مواسم المناسبات وإحياء المراسم الدينية في كربلاء"، ونفت المنظمة تقرير الصحيفة مما زاد من سخط أغلب الشارع الشيعي لهذا الموضوع، وقد اعتذرت الصحيفة لاحقاً عن تقريرها، وحقق الخاطفون معها في موضوع ما أطلقته الصحيفة من هذا التقرير، وبعدها أطلقوا سراحها بوساطة حكومية؛ لأنها أصبحت قضية رأي عام وتدخلت فيه الخارجية الفرنسية، والسفارة الأميركية في العراق وأغلب منظمات حقوق الإنسان، وهذا قد يُنذر بتبعاتٍ كبيرة على نفسية الصحفي السُنّي الذي يعمل في العراق وبغداد خصوصاً، لما يكتب ولما ينشر ولما يُصرح، فالخطر يلاحقه كالكابوس المُطبق.
معظم الصحفيين والإعلاميين قد هاجروا من العراق أو نزحوا إلى إقليم كردستان مُرغمين على الظروف التي عاشوها وسيعيشونها خارج أحضان الوطن، مُرغمين على جراحهم، مرغمين على ثقافة تكميم الأفواه التي تمارس بحقهم في العراق وبغداد بالتحديد، هكذا عراق اليوم الذي يحتوي السلطة الرابعة! هكذا يلبس ثوب الديمقراطية المُرقّع بأحزابه العميلة، الصحافة اندثرت في العراق إلا بعض الأصوات الشجاعة التي تنتظرُ مصيرها في أحد الأيام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.