"دخل المستشفى محمولاً على ذراعيْ ابنه، والشظايا تملأ جسده، وقد أتى به على متن دراجة نارية بعد القصف بنحو ساعتين؛ إذ لم يجد أي وسيلة نقل تحضره قبل ذلك، بسبب نقص الوقود في المدينة. هذا التأخير جعله يصل ميتاً، ولو أنه قدم مباشرة لكان من الممكن إنقاذه".
بهذه الكلمات، وصف الطبيب أبو حذيفة، إخصائي جراحة الأوعية الدموية الذي يعمل في الأحياء المحاصرة بمدينة حلب السورية، حادثة مقتل رجل أربعيني، اخترقت الشظايا صدره وبطنه في أثناء نومه، بعد استهداف حي القاطرجي الذي يقطنه بصاروخ من الطيران الحربي فجراً.
وأوضح أبو حُذيفة (الذي فضل عدم الإفصاح عن اسمه بالكامل)، أنه بسبب ندرة وسائل النقل نتيجة انقطاع إمدادات الوقود، وصل الرجل متأخراً إلى المستشفى، ليفارق الحياة.
يتكرر هذا المشهد كثيراً في الأحياء الشرقية للمدينة – الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة – التي تتعرض لحصار من قِبل الجيش السوري منذ أكثر من 3 أشهر، وسط قصف متواصل من الطيران الحربي الروسي التابع للنظام، على الأحياء السكنية والمراكز الحيوية فيها.
لماذا لم يحضر الإسعاف؟
عندما قُصفت المنطقة التي يقطن بها الرجل الأربعيني لم تحضر حافلات الإسعاف إلى الحي، الذي هجره معظم سكانه؛ إذ لم ترِدها معلومات عن وقوع إصابات عقب سقوط الصاروخ.
ووفقاً لأبو حذيفة: "تحاول سيارات الإسعاف والدفاع المدني تقليل حركتها قدر المستطاع؛ فهي لا تمتلك وقوداً كافياً يمكّنها من الذهاب إلى كل حي يشهد قصفاً، كما كانت العادة، فتوفره للحالات التي تشهد سقوط أعداد من الشهداء وإصابات كبيرة".
وتركز القصف الحربي، خلال الأشهر الماضية، على المشافي الميدانية في الأحياء المحاصرة، ما جعل القسم الأكبر منها يتدمر نهائياً ويخرج عن الخدمة، في حين تعمل المشافي القليلة المتبقية بنصف طاقتها، بسبب تضرر أجزاء واسعة منها إثر القصف، ونقص الكوادر والمعدات الطبية في ظل الحصار.
وأشار أبو حذيفة إلى أن عدداً كبيراً من الأطباء كانوا موجودين خارج مدينة حلب، في إجازات أو زيارات عائلية، حين بدأ الحصار، فلم يعد بإمكانهم العودة، ولا يتجاوز "عدد الجراحين من مختلف الاختصاصات داخل الأحياء المحاصرة 6 أطباء، وطبيب تخدير واحد، وطبيبي داخلية (باطنة) وثلاثة للأطفال، في حين ينعدم أطباء اختصاص أذن وأنف وحنجرة، وذلك في أحياء يقطنها نحو 300 ألف مدني".
المشافي والقنابل الارتجاجية
ولم تصمد تحصينات المشافي الميدانية أمام قوة الصواريخ، خاصة بعد استخدام القنابل "الارتجاجية" مؤخراً في قصف أحياء حلب، وأضاف أبو حذيفة أن مشفى الصاخور، الذي يعد من أكبر مشافي المدينة، "كان محصناً بصفين من البراميل على ارتفاع المشفى كاملاً، ورغم ذلك تدمر إثر القصف، وتطايرت بعض هذه البراميل الثقيلة إلى أسطح المباني المجاورة لشدة القوة التدميرية للصواريخ المستعملة".
وكثّف الطيران الحربي من قصف الأحياء المحاصرة، خاصة بعد انقضاء هدنة وقف الأعمال القتالية في شهر سبتمبر/أيلول 2016 كما انقضت هدنة أخرى في أكتوبر/تشرين الأول 2016، ولم تتمكن المشافي العاملة من استيعاب الأعداد الهائلة اليومية من الإصابات، وتسبب ذلك في وفاة المئات من المدنيين.
لماذا يتركون المرضى؟
وفي مجزرة حي الشعار نهاية سبتمبر 2016، وصل إلى المشفى الميداني الذي يعمل به أبو حذيفة أكثر من 50 مصاباً، افترشت أجسادهم أرض الإسعاف والممرات، ما أجبر الأطباء على توزيع المصابين قدر الإمكان، على المشافي القليلة المتبقية في المدينة.
ويضطر الأطباء في هذه الحالات إلى فرز المصابين حسب الأولوية، فيتم إدخال الحالات التي يؤمل إنقاذها إلى غرف العمليات المتوافرة، في حين تترك الحالات الخطيرة والميؤوس منها، في انتظار قدرها، فإن صمدت حتى تفرغ إحدى الغرف، كُتب لها النجاة.
يقول أبوحُذيفة عن هذه المجزرة: "يومها، اضطررنا إلى ترك نحو 10 مصابين في الانتظار، وعندما خرجتُ من العملية رأيت الممرضين ينعشون شاباً في منتصف الأربعينات، كان ينتظر دوره خارجاً؛ إذ توقف قلبه بسبب النزف الداخلي، ولم ينفعه تعويض السوائل والحجم في الإسعاف".
يعرب الطبيب عن تأثره الشديد لفقدان هذا الشاب، قائلاً إن "إصابته كان من الممكن تداركها بسهولة، لكن نقص غرف العمليات والأطباء حال دون ذلك".
نقص الدم مشكلة أخرى برزت في ظل الحصار، بسبب العدد المحدود لسكان الأحياء المحاصرة، وعدم القدرة على إطلاق حملات تبرع بالدم خارج المدينة لانقطاع الطريق، إضافة إلى نقص البلازما والصفائح الدموية، التي تستعمل لإيقاف النزف الشديد، ما شكّل عبئاً إضافياً، خاصة في أيام القصف المكثف.
وأكثر ما يعانيه أبو حذيفة؛ لكونه إخصائي وعائية (أوعية دموية)، هو انقطاع الخيوط الجراحية الوعائية ذات المقاسات الصغيرة جداً، واللجوء إلى الخيوط الأكبر في خياطة الشرايين الدقيقة، الأمر الذي انعكس سلباً على نوعية العمل الجراحي، واضطره أحياناً إلى التدخل جراحياً للمرة الثانية، بسبب سوء نوعية الخيوط التي استُعملت في الجراحة الأولى.
بتر أطراف الأطفال
مرضى غسل الكلى يواجهون خطورة فقدان أجهزة الغسل مع استمرار الحصار، إلى جانب نقص عدد مراكز الغسل، بعد خروج أحدها عن الخدمة بالكامل إثر القصف، فيما يعمل الاثنان المتبقيان بنصف الإمكانات، بسبب التضرر الكبير، كما يُرجَّح ارتفاع معدل وفيات مرضى السكري، بسبب نقص الأنسولين.
ويبقى الأطفال الضحية الأكبر في الحصار والقصف المتواصل، فإن نجا الطفل من الموت، واجه احتمال الإصابة بعجز دائم، وما يتبعه من إعاقات نفسية وبدنية، هذا فضلاً عن توقف حملات اللقاح ضد الأمراض الوبائية منذ أشهر.
ويؤكد أبو حذيفة ازدياد حالات بتر الأطراف لدى الأطفال قبل سن المشي، سواء السفلية أو العلوية، التي وإن تم تعويضها بالأطراف الاصطناعية مستقبلاً، تبقى مشكلة تدريب الطفل على المشي؛ لكونه فقدها باكراً، ويعاني الطفل طوال هذه المدة حرمان التعليم واللعب مع الأطفال، ما يخلق مشاكل نفسية لدى الطفل والأهل على حد سواء.
ويعيش أهالي حلب حالة ترقب، مع إطلاق فصائل المعارضة معركة كسر الحصار عن حلب، صباح الجمعة 28 أكتوبر 2016، على أمل أن تنجح في إنهاء معاناة سكان الأحياء الشرقية للمدينة، في ظل اتهامها للمجتمع الدولي بالصمت عن ما تقول إنه جرائم ارتكبتها قوات نظام الأسد وروسيا.
قال رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إن المعركة الدائرة في مدينة حلب السورية هي واحدة من أكثر حروب المدن دموية على الإطلاق.
وسبق أن وصف رئيس الصليب الأحمر بيتر مورير معركة حلب بأنها تعد من أكثر حروب المدن تدميرا في التاريخ المعاصر.
وقال: "لا يوجد في حلب أي مكان آمن، فالقصف المدفعي مستمر، والمدارس والمستشفيات والمنازل تستهدف. أما سكان المدينة، فهم يعيشون في حالة من الفزع".