لم يكن هذا اليوم سعيداً أبداً على (كومار)؛ لقد تلقى بريدا إلكترنياً في الصباح يخبره بأن الشركة قد استغنت عن خدماته وسيتم إنهاء عقده خلال شهرين إذا لم تنجح الشركة خلالهما في الفوز بمشروعات جديدة.
هكذا، بكل بساطة، تنتهي علاقة (كومار)، المهندس الماهر الذي أتى من جنوب (الهند) إلى إحدى دول الخليج منذ 10 سنوات اعتبر فيهن تلك الدولة موطنه الحقيقي حيث يعيش فيها أفراد أسرته حياة كريمة سعيدة، لم يستسلم الرجل سريعاً لتلك الصدمة، وإنما ذهب إلى مديره الأميركي (ديفيد) يسأله عن سبب تلك الإقالة ومَن الذي اتخذ هذا القرار ليراجعه فيه.
خبرة (ديفيد) الطويلة في مثل تلك المواقف جعلته يجيب على مرؤوسه بمنتهى الهدوء، بأن مثل تلك القرارات لا يتخذها شخص بعينه، تلك القرارات نابعة من حسابات مالية شديدة التعقيد، مؤداها أن الشركة يجب أن تقلص مصروفاتها، كي تحافظ على قيمة أسهمها في البورصات العالمية في ظل تدني أسعار البترول، وعلى الرغم من التعقيد الشديد لتلك الحسابات فإنها تتجاهل تماماً الحسابات المتعلقة بحياة أسرةٍ سعيدةٍ ستتفكك روابطها عندما يتركها عائلها للبحث عن مصدر رزق آخر.
(ديفيد) نفسه يعلم أن مقصلة الفصل من العمل تقترب جداً من رقبته، لكنه اعتاد مثل تلك الأمور واستوعبها تماماً، فقط كلُّ ما يخشاه أنه لن يستطيع أن يدفع لشركة الرهن العقاري قسطَ منزله الجديد الذي اشتراه مؤخراً في كاليفورنيا وسيكون مصيره الطرد من المنزل، ربما هو أسعد حظاً من الأجيال التي ستأتي بعده، فحكومته سوف تعطيه فُتاتاً تسميه "إعانة بطالة" مما كان يدفعه من ضرائب في الماضي، ولكنه يتوقع في المستقبل أن تُقلع حكومته الرشيدة عن معاملة أولاده وأحفاده بالمثل، عندما تُظهر حساباتها المعقدة أن ميزانية الدولة لن تتحمل مزيداً من تلك السخافات!
تلك الحسابات المعقدة كانت يوماً ما سبباً في انصهار عشرات الآلاف من البشر في هيروشيما وناغازاكي بعد دقائق معدودة من إلقاء قنبلة نووية على كل منهما؛ بغية تركيع حكومتهم وإجبارها على القبول بإعلان مؤتمر (بوتسدام). بالتأكيد، تمت مكافأة الطيار الأميركي الذي قام بتلك المهمة الناجحة حين عاد إلى أرض الوطن منتصراً وعاد أيضاً إلى أفراد أسرته الذين يفتقدونه جدّاً حاملاً معه كعك (الدوناتس) الذي يعشقونه، ربما قام هذا الطيار بعد ذلك بنقل خبرته الكبيرة في حسابات الإحداثيات وسرعة الرياح وغيرها من العوامل إلى طيارين آخرين استخدموها بعد ذلك في صهر عظام بشر آخرين في فيتنام وأفغانستان والعراق وغيرهم.
وهذا كان نفسه رد الطيار السوري الذي وقع أسيراً في أيدي قوات المعارضة المسلحة حينما سأله المذيع إن كان يعلم أن البراميل المتفجرة التي يلقيها صباح مساء تصيب غالباً مدنيين من مواطني بلده ومن المستحيل توجيهها لتصيب المسلحين فقط، فقال إن القيادة تعطيه الإحداثيات المراد إسقاط البرميل عندها، وعندما تصل مروحيته إلى الموقع المخطط له مسبقاً يأمر مساعده بإسقاط تلك الحمم الجهنمية، وقبل أن تذيب تلك النيران لحوم الأبرياء وتدك بيوتهم فوق رؤوسهم -بلا ذنب اقترفوه- يكون هو قد وصل إلى قاعدته سالماً وقد تم تجهيز وجبة غداء ساخنة له ولطاقمه كي يتناولوها، منتظرين إحداثيات جديدة ومكافآت كذلك.
إنهم دوماً أتباع وجنود النظام الذي يصل، بحسابات إحصائية اكتوارية وبحوث ميدانية دعائية تقوم على نظريات الاحتمالات؛ أن دم المواطن الذي يملك حق التصويت له أغلى بكثير جداً من دم أخيه الإنسان الذي يحيا في مكان آخر على كوكب الأرض، وأحياناً يكون دم مواطنه هذا بضاعة رائجة لتسويقها في سوق الانتخابات أو حشد التأييد لمشروع قانون معين يجيز الاعتداء على دول أخرى وسفك المزيد من دماء البشر المعصومة في كل الأديان.
نظام يخلق عند أتباعه احتياجات ومتطلبات جديدة كل يوم حتى وإن كانت تلك المتطلبات مما ينافي الفطرة التي جُبل عليها الإنسان، يجعل أتباعه دائماً مديونين له حتى وإن كانوا أثرياء ظاهرياً كي يحصلوا على تلك المتطلبات التي لا تنتهي، يفرض عليهم طعاماً وشراباً معيناً حتى وإن ثبت بالعلم خطورته البالغة، يفرض عليهم كل عام زياً موحداً يشترونه بالأثمان الباهظة حتى لو بُعث فيهم مَن كانوا قبلهم منذ سنين معدودة لظنّوهم مجانين قد فقدوا عقولهم من شدة سخافة ما يرتدونه ويفعلونه!
هذا النظام الذي يريد للجميع أن يكون ترساً في آلته التدميرية التي ستأتي -يوماً ما ليس ببعيد- على البشرية جميعاً، هو الذي يجب أن نثور عليه، ونتمرد على الدوران في آلته والامتثال لمبادئه وأخلاقياته، القائمة فقط على الحسابات المادية الخالية تماماً من العاطفة والإنسانية؛ لأن الله -تعالى- خلقنا بشراً لنا إرادة وعقل، وقلب وروح، نسعى لتعمير الأرض التي خلقها لنا جميعاً وسخّر خيرها لنا جميعاً نحن بني آدم، سواء عبدناه أم لم نعبده.
إذا توقف ترس واحد شجاع عن الدوران في تلك الآلة ربما سيسحقه زملاؤه، لكن يجب على هذا الترس أن يتوقف ويجب على المحيطين به كذلك؛ لأنهم ليسوا تروساً في الحقيقة، وإنما هم بشر خلقهم الله من شعوب وقبائل ليتعارفوا، يجب أن نتوقف عما نفعله قليلاً ونتأمل إن كنا نسير في الاتجاه الذي سيوّرث أبناءنا وأحفادنا كوكباً جميلاً يسعدون بالحياة فيه، أم أنهم سيلعنوننا لأننا دمرنا مستقبلهم حين أفنينا الوقود الذين سيحتمون به من البرد القارس وأجهزنا على ما تبقى من الغذاء والماء وأحرقنا الأخضر واليابس في تجارب وحساباتٍ، لم يكن الهدف منها إلا أن ندمر بعضنا بعضاً.
يجب أن نثور على كوننا تروساً في آلة، أو بهائم في قطيع قد رُبط على ظهر كل واحدة منها عصاً طويلةً تتدلى في نهايتها احتياجات صُنعت لنا خصيصاً بحيث نسير خلفها إلى هاوية محققة، يراها العاقل فقط ولا يراها غيره.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.