وقف الخلق ينظرون جميعًا كيف يقول التحالف الوطني لدعم الشرعية في بيانه يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 2014 ثلاث كلمات محددة: "مصر بتتكلم ثورة"، ودعا التحالف يومها لموجة ثورية "قوية وعظيمة ومزلزلة"، ووصف العام الجديد 2015 بأنه: "عام ثوري مصيري"، وها قد انتهى العام ساكناً وكأنه عام هدنة، ومر وكأنه صيرورة فشل وهدأة.
كما جاء في البيان: "لن تنفع الخائف المهزوز نصائح العجوز الفاسد، أو تعليمات الصهاينة والأميركان أو خليج الاستبداد، أو جولات التسول وبيع مصر"، ولا شك أن المقصود بالخائف المهزوز هو الفريق السيسي، والأغلب أن العجوز الفاسد هو محمد حسنين هيكل، أما نصائحه فقد قال هيكل في ديسمبر 2014: "السيسي يجب أن يثور على نظامه وأدواته في الحكم"، وحذره من فتك رجال النظام القديم به وأنه عليه أن يُرتب أوراقه، وبالفعل أطاح السيسي بفريد التهامي رئيس المخابرات العامة في ديسمبر 2014، وبمحمد إبراهيم وزير الداخلية في مارس/آذار 2015، وبأسامة الجندي من منصب قائد القوات البحرية وعضوية المجلس العسكري في أبريل/نيسان، كما أطاح بمحمد العصار مساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح فخرج من المجلس العسكري في سبتمبر/أيلول، وشهد عام 2015 أكبر عدد من الإقالات للعديد والعديد من ضباط المخابرات العامة، والخروج أخيرًا ببرلمان "عكاشة مرتضى" للنور كخطوة أخيرة في خارطة طريق انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، فيما ظل أبرز رموز نظام مبارك صامتين في بيوتهم بعد الحكم لهم بالبراءة.
وقد عاد مجددًا الكاهن العجوز ليقول في ديسمبر 2015: "السيسي قال لي إنه ينام ساعتين، وما يواجه مصر قد يجعلها في طريق الخروج من التاريخ، ونحن في لحظة خطر ولا توجد بوصلة ولم نستشرف بعد المستقبل"، وبدا من كلامه أنه لا يتحدث عن تأمين السيسي ونظامه داخليًّا، بقدر ما يتحدث عن خريطة جديدة للمستقبل في صلبها استيعاب المحيط الخارجي وحلفاء الإقليم؛ بوضع رؤية واضحة وخطة عمل، وأقر بأنه لا يوجد رضا من الشعب، بل قبول لعدم وجود بديل، ويكاد يكون لم يذكر جماعة الإخوان أو الرئيس مرسي في حواره إلا وهو يستشهد بالماضي الذي مر ولم يعد له أثر؛ مقارنة بحواره في ديسمبر 2014 والذي هاجم فيه الإخوان بشدة.
وخرج في 13 فبراير/شباط 2016 السيسي في زينته دون أن يحشر الناس ضُحى، متجاهلًا أي ذكر لثورة 25 يناير ليُلقي خطابه الأول أمام برلمان الجيش، والذي انعقدت أولى جلساته يوم الأحد 10 يناير/كانون الثاني، فيما انعقد أيضاً يومها برلمان الإخوان في تركيا أو كما يُسمونه البرلمان المصري؛ فهؤلاء "بيشتغلوا" الشعب وهؤلاء "بيشتغلوا نفسهم" ومصر تتحدث مع نفسها، ليكتمل مشهد البؤس والحيرة ويتأكد غياب الحل والتغيير، وينهار أي أفق لاستقامة أو سداد فها نحن أمام نظام يُعيد إنتاج الانحطاط والقهر والعته، ومُعارضة تُعيد إنتاج الفشل والمرار.
فلم يكفِ القيادات القديمة التي أوردتنا المهالك ما شربناه كدرًا وطينا؛ فبعضها رابض متمسك بمناصب وبعضها منتفع أو ضيق الأفق أو حنجوري أو لا رؤية له أو مخادع، ولم نر بَعد قيادات جديدة يُمكنها أن تنير الطريق وتميط الأذى، بل إن أبرز الوجوه الجديدة التي تم تقديمها للساحة في 2015 (محمد منتصر المتحدث الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين)، بات لا يظهر كمُعبّر عن الشباب أو الثورة أو المقاومة أو حتى عن جماعة الإخوان؛ بل عن أحد جناحي الجماعة بعد أن عيّن الجناح الآخر متحدثًا إعلاميًّا جديدًا، والذي تفوقت أعداد المعجبين بصفحته في فيسبوك على صفحة منتصر في غضون أسابيع قليلة مستخدمًا الإعلانات المدفوعة.
أما المجلس الثوري المصري فيبدو دائمًا في دور المدافع عن شرعية الرئيس مرسي، ولكن الاستمرار في إيهام الشعب أن القضية كل القضية هي عودة مرسي، هو اختزال لمعركة هذا الجيل واحتواء لطاقته وتأطير لثورته، ليتجذر الوهم الذي يقول إن الشرعية ضد الاصطفاف، وينسون أن الشرعية للصواب والاصطفاف لا يكون إلا على الحق، وإن كان منا من يتمسك بعودة الرئيس خوفًا من استمرار ذئاب الجيش بإزاحة السيسي ومجيء من هو ألعن وأضل سبيلا، أو خوفًا من إعادة تلميع وتدوير وتقديم رموز 30 يونيو/حزيران أو قيادات جبهة الإنقاذ التي مارست الجرائم (حمدين صباحي- محمد البرادعي- عمرو موسى…)، أو خوفًا من تسليم البلد لاتجاهات وأفكار مُلخبَطة تُحارب عقائد الناس وآمالهم الإسلامية، فكل هؤلاء الخائفين خوفهم مُقدّر ولكن ليعلموا أن عودة مرسي بدون تحرر وتطهير وقصاص وهُويّة لا يساوي أي شيء.
فيما خرج نهاية ديسمبر 2015 بيان جماعي من علماء وبرلمانيين وشخصيات عامة يدعو لتسريح قوات العسكر ومنعها من تقسيم مصر، وجاء فيه أن بمصر حرب إبادة ونشر للتنصير بين الأغلبية المسلمة، وأن ميليشيا العسكر قوات احتلال أجنبية يجب تسريحها وتأسيس جيش جديد، وأن ميليشيا العسكر تعمل على تقسيم مصر وإنشاء دويلة للأقباط غرب الدلتا وتمكين الصهاينة من سيناء، وأنهم يُخططون لإحداث مجاعة في مصر بتنازلهم عن مياه نهر النيل، وغير ذلك من كلامٍ ساخنٍ، وأكان هذا الكلام صادقاً أم كاذباً، واقعيًّا أو تهويلاً، متزناً مواجهاً أو فَزعاً هَلوعاً، إلا أنه في كل الحالات ظهر وكأن هناك فئة تتحدث مع نفسها!
إذًا أدوات رتيبة للمواجهة وآليات قديمة للإصلاح وسُبل مكررة للحركة، هي وصفة الفشل الممزوج من البعض بحكمة الخنوع ومن آخرين بحماس الفزع، نتجرّع الوصفة في كل عام على أمل بروز لاعب جديد أو تحوُّل كبير، فإن كان شاعر النيل حافظ إبراهيم أنشد في 1921 قصيدته الراقية الرقراقة "مصر تتحدث عن نفسها"، فأخاف أن يكون التحول هو ظهور شاعر جفاف النيل في 2021 ليُغنّي لنا في أحد المهرجانات:
وبناةُ المقابرِ في عصرِ الجيشِ .. كَفَوني الكلامَ وكتموا حسّي
أنا وأم علاء مش لاقيين شربة ماء .. خديلك نَفَسين يا ختي وشدّي
اجري يا شعبي في مصبِّ النيل .. دا جاف وجميل اجري يا مجدي
أنا إن قدّرَ الإلهُ مماتي .. أبو نسر وكاب هيقول: آه يا سعدي
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.