لا تزال ردود الفعل الغاضبة في أميركا والعالم تتوالى ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمنع مواطني سبع دولٍ ذات أغلبية إسلامية من ضمنها العراق، من دخول الولايات المتحدة الأميركية، احتجاجات هنا ومظاهرات ووقفات تضامن مع المسلمين هناك، الكل أجمعوا على أن القرار "عنصري" ووقفوا ضده، بمن فيهم العنصريّون أنفسهم، وردّد كثيرون بصدمة: كيف لـ"بلد الحريّات" أن يُصدِرَ قراراً كهذا؟ وهل جاعت أميركا فبدأت تأكل تمثال الحرية الشاخص في نيويورك، كما كان يفعل الناس مع أصنامهم أيام الجاهلية؟
المواطنون العراقيون حتى اليوم تسيطر عليهم حالة من الصدمة ممزوجة بالاستغراب، وهذه الصدمة حتماً فاقت صدمة الجميع، لكن ليس من قرار منعهم دخول أميركا، وإنما من ردّة فعل حكومتهم تجاه هذا القرار الذي اعتبرته "غير صحيح ويشكّل إساءة للعراقيين"، بالإضافة لمطالبتها رجل البيت الأبيض بضرورة مراجعته وإلغائه، فما فعلته حكومة بغداد مع مواطنيها فاق عنصرية ترامب بسنواتٍ ضوئية، خصوصاً أولئك الذين فرّوا من المناطق التي شهدت عمليات عسكرية.
فمع سقوط المناطق السنّية بيد تنظيم داعش، نزح ملايين البشر منها، قاصدين المناطق الآمنة التي لم تفلت من سيطرة القوات النظامية، لم يحمل هؤلاء المساكين معهم سوى ما يستر عوراتهم، فتوقّع الجميع أن تُعلن الحكومة العراقية حالة الطوارئ لاستقبالهم وإيوائهم وتوفير المستلزمات الضرورية لهم، كما تفعل أي حكومة على هذا الكوكب في مثل هذه الحالات، إلا أنها تعاملت معهم كما تعاملت حكومة بنغلاديش مع المسلمين الروهينغا الذين فرّوا إليها بسبب العنف في بلدهم ميانمار؛ حيث رفعت على الفور شعار: "أنتم غير مرحّب بكم" بشكلٍ علني، وأغلقت منافذ العبور إلى العاصمة بغداد ومنعتهم من دخولها، فافترش الناس الأرض والتحفوا السماء قرب هذه المنافذ لأيام طويلة، على أملِ السماح لهم بالدخول، ومع الإصرار الحكومي على منعهم، لم يجدوا غير الصحراء مأوى لهم، فنصبوا خيامهم هناك وظلّوا فيها قرابة العامين ونصف العام، وطيلة هذه الفترة لم توفّر الحكومة لهم لا غذاء ولا دواء، بل تركتهم يصارعون الأمراض التي تفشّت بينهم وفتكت بالكثير منهم، خصوصاً الأطفال وكبار السن.
مأساة هؤلاء مع حكومتهم لم تتوقّف عند هذا الحد؛ إذ خطفت الميليشيات التي ترافق القوات النظامية أكثر من ألف مدني أثناء محاولتهم العبور إلى بغداد عبر منطقة تُسمّى "الرزارة"، واقتادتهم إلى أماكن مجهولة، ورغم مرور أكثر من عامين على اختطافهم فإن عائلاتهم لم تعرف مصيرهم حتى اللحظة، فالرواية الأولى تقول إنهم قُتلوا، والرواية الثانية ترجّح وجودهم في سجون سرّية تابعة للميليشيات المرتبطة بمجلس الوزراء، وهذه السجون لا يُسمَحُ لأحدٍ دخولها ومعرفة ما يجري فيها.
إذاً، كيف لحكومةٍ تعاملت مع مواطنيها الذين فرّوا من جحيم الحرب إليها بهذا الشكل، واضطرّتهم للعيش بين قتل وجوع وحرمان، ونزوح وتهجير وترويع وإقصاء وتهميش وإذلال واحتقار، حتى أصبحوا غرباء، مواطنين بلا وطن فقط؛ لأنهم من المكوّن "السنّي"، أن تعترض على قرارات ترامب وتصفها بالعنصرية؟ خصوصاً أن هذا كله حدث في وقتٍ كانت فيه أبواب العراق مفتَّحة على مصراعَيها أمام الإيرانيين، حتى إن أكثر من 500 ألف منهم كسروا الحدود وعبروها دون تأشيرةٍ أو حتى ختم جوازاتهم بحجة زيارة المراقد الدينية!
هذه الازدواجية ليست بالجديدة على الحكومة والمقرّبين منها، فمنذ تسلّمهم مقاليد الحكم في البلاد بعد الإطاحة بنظام صدام حسين واحتلال العراق عام 2003م على يد القوات الأميركية وحلفائها، وهم يتهمون الآخرين بالتدخل في الشأن العراقي ويدعونهم للكف عن ذلك، وفي الوقت نفسه تجدهم يُطلقون التهديد والوعيد في كل مَحفل وعلى كل منبر بدخول دول الخليج واحتلالها، ناهيك عن تأييدهم ودعمهم لمنظمات خليجية وأشخاص مطلوبين لبلدانهم ومصنّفين بـ"الإرهاب"!
كل هذا التخبط والجنون السياسي لن تجده إلا في "الحكومة العراقية الترامبية"، سواء الحالية أو الحكومات السابقة؛ إذ لم يُحسِن الذين تسلموا زمام الأمور في هذا البلد، فعل شيء سوى نهب ثروات البلد -إلا ما رحم ربك- إذ بفضل فسادهم وتبعيتهم للقوى الإقليمية والدولية تحوّل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الدول الكبرى، فدُمِّرَت بِناه التحتية، وسالت دماء مواطنيه أنهاراً، وتمزّق نسيج المجتمع حتى أصبحت راية الطائفة فوق راية الوطن، أما الاقتصاد فهو يسير بخُطى ثابتة نحو الهاوية، دون أملٍ بطَيّ هذه الصفحة المظلمة من تاريخ العراق قريباً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.