الغربة كلمة طعمها مر، مرارة العلقم أو أشدّ، كلمة قاسية وتجربة مريرة قد عاشها البعض منا لكن بوجوه مختلفة، وببلدان عدة ولأسباب متعددة، فمنا مَن وُلد ووجد نفسه في بلد قد هاجر إليه الأهل بحثا عن فرصة عمل أفضل فنشأ بينه وبين تلك البلاد علاقة ليست بالانتماء، ولكن ربما نوع من التعود والامتنان، ومنا من يجد نفسه مجبراً على ترك البيت الدافئ الذي نشأ وترعرع به طلباً للعلم عله يضيف عند عودته بالشهادة والنجاح لهذا الدفئ لمسة فرح وفخر لقلب من أفنوا عمرهم؛ ليعيشوا تلك اللحظة من السعادة والفخر.
وبعضنا يبحث عن فرصة أفضل لتحسين مستواه في بلد غير موطنه الأصلي، ومنا من يكون في بلده ومع أهله ولكنه يشعر بغربة قاتلة قد حاصرته من كل جوانب الحياة، من هموم ومشاكل وظلم وهضم للحقوق، وعدم منحه الفرصة التي يستحق؛ لأنه لا يملك واسطة أو غير مدعوم من فوق، بل من وجهة نظري أن أصعب أنواع الغربة هو عندما تشعر بغربة المبادئ والثوابت والأخلاق والقيم.
وبغض النظر عن نوع الغربة التي قد عاصرها أي منا، يبقى السؤال الأهم: ماذا علمتنا الغربة؟! وما هي الدروس والعبر التي منحنا إياها البعد عن البلد والأهل أو الإبعاد عنهما؟!
بالنسبة لي فالغربة كانت الدرس الأقوى والمواجهة الأصعب والمدرسة الكبيرة، بل والجامعة المفتوحة التي استقيت منها أعظم الدروس وأهم العبر.
فالغربة علمتني أن أعشق بلدي مهما قدم لي وأن أكره الفاسدين؛ لأنهم سبب حرماني منه وإبعادي عنه، وهم أيضاً سبب تفكيري بتأخير عودتي أنا والكثيرين من أبناء الوطن المغتربين إلى وطننا الحبيب.
الغربة علمتني أن للصداقة الحقيقة حدوداً أبعد بكثير من مجرد كلمات ومواقف، وأنها كلما اتسعت المسافات بان بريقها واتضحت معالمها جيداً، وتكشفت تماماً هل كانت سراباً أو واحة أمان حقيقية بعيدة عن المنفعة والمصالح الدنيئة التي غزتنا هذه الأيام ولوثت جل علاقاتنا.
الغربة علمتني أننا نمتلك أشياء كثيرة، لكننا لا ندرك قيمتها إلا عندما نتركها أو نبتعد عنها أو يوجهنا إليها أحد أو توقظها الأيام فينا.
الغربة علمتني أن أكتم ألمي بداخلي وإن كانت ملامحي ستعريني أمام الجميع؛ لأن جميع آلامي ستفسر غالباً بصورة مقلوبة عن الحقيقة وكل سيجتهد في تحليلها حسب هواه؛ لأنني بعيد عن بلدي.
الغربة علمتني من أنا وكيف يمكنني أن أنتصر على نفسي وعلى التخاذل وعلى التشاؤم في كثير من المعارك على أمل أن الوضع الراهن لن يدوم، وأنني سأعود إلى بلادي يوماً ما. الغربة علمتني أن معادن الناس تنصهر في الغربة وتستطيع عندها التمييز والمفاضلة بين الأصيل منها من المقلد ويستطيع كل ذي لب التمييز بسهولة بين الغث والسمين.
الغربة علمتني أن الموت مئات المرات فوق ذرات تراب بلادي أهون من العيش غريباً في أي بلد كان؛ فإن الغربة في كل حرف منها قصة معاناة وحرقة قلب مشتاق وحنين طاغٍ وألم يكبر وأمل يشاطرني اللحظات والأيام.
الغربة علمتني أن أميز بين البلد وبين من دمر البلد وأوصلها إلى مهاوي الردى.
الغربة علمتني أنه لا بد من التمييز بين الفرحة والشهوة والملذات الآنية واللحظية وبين الراحة النفسية والجسدية الدائمة والحقيقية.
الغربة علمتني أن مكيفات الدنيا كلها لا تستطيع تبريد جمر اشتياقي لبلادي الغالية، ولا تستطيع إطفاء لهيب غضبي من الفساد وزمرته في بلدي الحبيب.
الغربة علمتني قيمة أن تشارك الأهل والأصحاب في أفراحهم وأحزانهم، ومعنى أن تكون بعيداً عنهم في مثل هذه المناسبات.
الغربة علمتني أنه لا بد من وضع هدف لها وغاية من ورائها، وأنه لا بد أن يكون هناك نهاية حتمية لها من صنع يدي بعد أن أكون قد حققت الهدف الذي تغربت من أجله أو الجزء الأكبر منه.
الغربة علمتني أن أسلم أمري لله راضياً ومطمئناً في الأمور التي يسيرني بها الله جل جلاله، وأن أجتهد وأسعى فيما خيريني به.
علمتني الغربة أشياء وأشياء كثيره لا مجال لحصرها ولكن سيبقى الدرس الأهم والمعادلة الأثبت والأوضح التي لا يمكن لكيميائيي العالم كلهم تغييرها أو طعن فيها، وهي أنني لا أساوي قيمتي الحقيقية إلا فوق ذرات ترابك الطهور يا بلدي، حفظ الله الأردن وأهله وبارك لنا به وكفانا الله شر الفاسدين والمفسدين والحاقدين والمتربصين والمنتفعين، وهيأ لنا فرص العودة إليه بأقرب وقت ممكن، وأسبغ نعمة الأمن والأمان عليه وعلى كل بلادنا العربية والإسلامية، إنه نعم المولى ونعم النصير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.