كنت أسأل نفسي يومها إذا كنت سأستيقظ من هذا الكابوس وأجد نفسي في غرفتي.. أو إذا ما كان أبي سيوقظني بعد قليل لكي أذهب للجامعة.. لم يحصل شيء من ذلك، فهذي هي الحقيقة.. أنا معتقل بالفعل..
حاولت أن أعدل من وضعي في الـ120 سم المتاحة لكل شخص في هذه القاعة الكئيبة، كان هذا الأمر من الصعوبة بمكان بالنسبة لي، ليس فقط لأني بالكاد أستطيع تحريك جسدي، ولكن لأن أي حركة بسيطة كفيلة بإيقاظ من حولي في غرفة تضم 90 شخصاً، رغم أن طاقتها الاستيعابية قد لا تسع إلا لـ50 في الظروف القاهرة!
أحسست بألم رهيب في رأسي وتلفتُّ حولي لأستكشف المكان الذي أنا فيه، كان الصمت رهيباً لدرجة تصم الآذان، ولم يكن من يجرؤ على قطعه من شيء هنا إلا صرخات قادمة من غرف التحقيق، وأصوات لمراوح لاهثة. الإنارة كانت خافتة وربما أنها صممت هكذا لتزيد المشهد كآبة مع الكآبة الموجودة بالأساس بين هذه الجدران الصماء. الجميع كان منكفئاً يدعو بالنجاة ولو لليلة واحدة من حفلات التعذيب الليلية التي تبدأ عادة بعد الساعة الحادية عشرة.
يقولون إن شريط الحياة يمر من أمامك حين تواجه الموت، وكذلك يحصل حين تتمنى الموت ولا تجده.. فتبقى كذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. بين الأموات و الأحياء!
فكرت ببيتي في تلك اللحظة، ما الذي يفعله أهلي يا ترى الآن؟ لا بد أنهم لم يفيقوا من صدمة ما قد حدث بعد. مر بخاطري أصدقائي وكل من أعرف، سيفتقدوني كثيراً قبل أن يعرفوا بخبر اعتقالي.
ذهب خيالي بعيداً وتذكرت شريط اعتقالي، ذلك الشريط الذي لا يزال يعيد نفسه بنفسه رغم مضي أكثر من 8 سنوات عليه.. اسأل أي معتقل وسيخبرك بالأمر نفسه، لا أحد يستطيع أن ينسى تلك الحادثة!
يقع بيتنا في منطقة الأعظمية ببغداد.. والبيت يرتفع بما يكفي بركن الشارع ليطل على مسجد الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله.
لم يكن قد مر على دخولي البيت إلا دقائق حتى سمعت أصوات الآليات تجوب المنطقة. بدأ الجنود بالانتشار وبدأوا باقتحام المنازل.
"حسناً" قلت في نفسي.. "إنها مداهمة عشوائية مثل مئات المداهمات قبلها". نزلت في الأسفل لأتأكد أن كل شيء بخير، لم يرعني إلا صوت انفجار هائل أطاح بباب البيت الخارجي، بدأ الجنود يتدفقون إلى البيت كالمجانين، دخلوا البيت هاجموا بالضرب والتنكيل كل من كان أمامهم.. أبي، أخي، ابن عمي..
فكرت بأجزاء من الثانية عما يتوجب علي القيام به، كان أول ما لاح أمامي هو الهرب.. وهكذا فعلت! التفتُّ لبرهة إلى الخلف فهالني ذلك العدد الضخم من الجنود والمعتقلين على حد سواء، لفت انتباهي أيضاً وجود الأميركان المكثف برًّا.. وجوًّا.
لم أكد أقوم بخطوتين في الشارع حتى انتبهتْ لي مجموعة من الجنود.. بدأوا بالصراخ وإطلاق النار في الهواء..
"توقف.. سأطلق عليك النار"!
بدأ دماغي بتحويل كل الإدرينالين المتاح إلى قدمي. الركض.. وبأقصى سرعة.. هذا ما كانت كل خلية في جسدي تخبرني به في تلك اللحظات. توجهت مباشرة إلى نهاية الشارع، تاركاً خلفي تلك المجموعة من الجنود بمسافة كبيرة، لكنهم وعلى عكس ما توقعت لم يقوموا بملاحقتي، وإنما قاموا بإطلاق النار نحوي مباشرة!
كان الرصاص مركزاً نحوي قدمي بالبداية، لكنهم -ومع ابتعادي أكثر- بدأوا بإطلاق النار بشكل قاتل.. مباشرة نحو الرأس.
بدا لي وكأنني أحتاج لدهر قبل أن أصل إلى نهاية الشارع. زخات الرصاص بدأت بدورها تنهمر نحوي حتى أن إحداها مرت بالكاد قرب رأسي.. حمراء وكأنها تطن مثل نحلة مجنونة!
أخيراً لاحت لي نهاية الشارع، ورغم أن جسدي قد أوشك على الإعياء، إلا أنني زدت من سرعتي لألتفَّ نحو الشارع الآخر بعيداً عن أنظار أولئك الجنود.
كانت زخات الرصاص ما تزال تواصل الانهمار أمامي وترتطم بجدران المنازل عن يميني وشمالي، رميت بكل قوتي نحو اليسار لأعبر إلى الشارع الآخر. لكنني تفاجأت بوجود سلك صغير بين عمود الكهرباء وبين جدران أحد المنازل حيث كنت أركض، ارتبكت كثيراً فلم أتوقع ذلك.. كما أنني تفاجأت بسيارة فورد عسكرية مزودة بمدفع عيار 14 ملم في أعلاها، اختلط الموقف علي بين التوقف والاستسلام أو المضي إلى الأمام..
كنت أركض بأقصى سرعتي.. ولم أتوقع قدوم السيارة نحوي.. حاولت التصرف بسرعة وتخطيت ذلك السلك.. عبرته بالفعل بقدمي اليمنى.. لكني أحسست بقدمي اليسرى قد علقت به!
ارتطم رأسي بالأرض ووقعت أخيراً، تجمع حولي الجنود المسعورون، كان عددهم كبيراً لدرجة أن جسدي كان يشعر بالحيرة أكثر من الألم، لكثرة الضربات التي كان يتلقاها في الوقت نفسه..
كان الضجيج والصخب عالياً جدًّا.. شتائم.. كفر بالله.. ضرب.. أصوات ذخيرة تلقم في البندقية!
فجأة.. انقطع كل ذلك.. وأحسست مع ذلك السكون بطنين قوي وحرارة تتدفق من رأسي.. صارت الأيدي تتخطفني لترميني في حوض السيارة العسكرية مع أشخاص معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي.
كان ذلك آخر ما رأيته، قبل أن يخف الألم من رأسي بشكل مخيف، وأن تتلاشي كل الأصوات والأضواء.. أحسست أني غادرت هذه الدنيا بالفعل..
انقطعت كل هذه المشاهد بلحظة خاطفة، على وقع أصوات فتح الأقفال الثقيلة لباب السجن، وضع الجميع أياديهم فوق رؤوسهم وخفضوا جباههم..
بدأ الحارس بقراءة الأرقام..
198، 575، 478،398، 238……….
238..؟
إنه رقمي مرة أخرى!
"اربطوا أيديكم خلف ظهوركم.. وضعوا العصابة على أعينكم".. صاح الجندي بصوت قبيح.. وهو يطوي الورقة التي فيها الأرقام.
فعلنا كما أراد وأمسك أحدنا بطرف ثوب الآخر.. وتوجهنا بلا حول ولا قوة نحو السلالم، نسحب أقدامنا سحباً نحو الأعلى، حيث تنتظرنا حفلات التعذيب..
بدا لي لوهلة.. أن هذه الليلة لن تنتهي..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.