مفتاح العودة

كانت تسترجع من وقت لآخر بقايا ذكريات بالية لماض حزين، وفي زحام الذكريات وفي عمق الألم، يداهمها الحنين من كل جانب لوطنها...

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/10 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/10 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش

فلسطينية الجنسية كانت، تغازل الكون بعينين يغار القمر من سوادهما.. ما زالت تذكر ذاك اليوم الذي التقته فيه تائهاً بين أروقة الجامعة يبحث عن قاعات الدرس… في زحام المارين، بين هذا وتلك وذاك، سمعت صوتاً يخاطبها سألها آنذاك عن الساعة، وهو الذي لم يكن يعلم أن الزمان قد توقف لديها في تلك اللحظة لتتوه بدورها عن الساعة..

هكذا هي قصص الحب تبدأ من النظرة الأولى وأحياناً من النبرة الأولى.. لم تكن تؤمن بمقولة أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، لكنها لم تكن تدرك أنها ستصبح يوماً من أنصار تلك المقولة وضحايا النبرة الأولى… وهكذا تنقلب موازين الحياة فجأة ليصبح الخجل سيد الموقف… اعترتها في تلك اللحظة فوضى حواس عارمة جعلتها تترك المكان بسرعة وهي التي لم تكن تدرك أن خارطة الزمن سترتب لها معه لقاءا ليس ببعيد..

بخطى مرتبكة أدركت محاضرتها الأولى بكلية الطب، وهي التي كانت تحمل بداخلها هذا الحلم منذ الصغر.. وكيف لها أن لا تعشق هذه المهنة وهي التي ولدت في بلد ينتشر المرض في كل زواياه ويتساقط الجرحى كأوراق الخريف في كل ثناياه… ما زالت تذكر ذاك اليوم الذي ولدت فيه من جديد، في ذاك الماضي البعيد؛ حيث وجدت تحت الأنقاض تصارع الموت وكأني بها تتشبث بالحياة وهي التي لم تكن تعلم أنها منذ ذاك اليوم ستصبح رقماً في قائمة اللاجئين، فبأي حياة يا صغيرتي تتمسكين؟ مع إشراقة كل يوم جديد هي ولادة من جديد في وطن تفوح فيه رائحة الموت بدل القهوة الصباحية ويصبح فيه نبأ الوفاة من بين تفاصيل حياتهم اليومية… فهل كتب على فلسطين أن تتشح بالسواد، وكل العالم العربي اليوم يتغنى بالجهاد؟ بأيادٍ إسرائيلية كانت الطفولة تغتال في اليوم مليون مرة بتهمة "الجنسية"، ولربما من الغباء أن نتحدث عن الطفولة وكل أطفال فلسطين هم مشروع شهداء..

كانت تسترجع من وقت لآخر بقايا ذكريات بالية لماض حزين، وفي زحام الذكريات وفي عمق الألم، يداهمها الحنين من كل جانب لوطنها… فتلملم ذكرياتها وتمضي ترتب أوراقها وتلتفت هنا وهناك فلا تجد سواه في قاعة المحاضرات يراقبها من بعيد بعد أن غادر الجميع وهي في غفلة من أمرها..

على غير عادته، صار الوقت يمر بخطى متثاقلة، كانت تنتظر إشراقة شمس كل يوم جديد لتلتقيه وتسرق من الحياة لحظات سعادة كأنها تؤمن بأن السعادة ليست من حق الفلسطينيين… ترتب تفاصيل اللقاء وتنتقي كلماتها وحركاتها أدق انتقاء وبمجرد رؤيته قادماً من بعيد تتبعثر الكلمات وترتبك الخطوات فتلتزم الصمت… وبمرور الأيام اعتادت وجوده بحياتها حد الإدمان، وهي التي لم تكن تعلم أن مريض الحب لا يشفى بجرعة نسيان… غير أنه كان كثير الغموض في البداية، وغموضه كان يجعلها تائهة بين كلماته تنتقي الأجمل فيها لتكسوها رداء الغزل، بين الجد والهزل كان يعبث بها، وهي التي تعلم بأنه يفعل ذلك عمداً وبأنه يجيد إخفاء إعجابه بها بخفة دمه اللامتناهية… يأخذها لبضع لحظات لزمان آخر… لمكان آخر… لسعادة من نوع آخر، ويعود بها في نفس اللحظة بدهاء رجل شرقي ساخر يأبى أن يكشف أوراقه ويعلن حبه في الظاهر.

ما بين الألم والأمل خيط رفيع كان يجعلها تتمسك بالحياة وكسائر أبناء وطنها كانت تحمل حلم العودة بداخلها.. سألها ذات يوم إن كانت تأمل بالعودة؟ فردت كيف لا وأنا أحمل هذا الأمل في حقيبتي أينما ذهبت.. فضحك ساخراً لكنه سرعان ما التزم الصمت عندما شاهدها تهم بفتح حقيبتها فعلا؛ لتخرج منها مفتاحاً قد بدا عليه أثر السنين.. قالت: هذا هو أملي وأمل كل اللاجئين الذين تركوا قلوبهم هناك، مفتاح منزلنا في فلسطين، سأظل أحمله، ستحرر فلسطين يوماً وسأعود وبيدي مفتاح العودة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد