المرض.. رحلة للارتقاء

المرض.. كلمة لا تمثل لنا إلا الألم، بمجرد سماعها أو اقترابها من أجسادنا تنقبض قلوبنا نفوراً ورهبة وسرعان ما يتبادر إلى أذهاننا صور عديدة من الأسى والأنين وربما العجز، منتهياً بنا الحال على فراش الموت مسلوبي الإرادة بلا حول ولا قوة، تاركين وراءنا حياة خاوية خالية، لا شيء فيها سوى التأوه والتحسر على سنوات تمر أمام أعيننا ينهشها الألم بلا رحمة، وأحلام كنا نهفو إليها، تتوارى شيئاً فشيئاً، فقد حال بيننا المرض، ننظر إلى المرض، وكأنه وحشي شرس جاء ليقفر حياتنا فلا يبقى لنا منها إلا الألم.. الألم وفقط.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/12 الساعة 07:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/12 الساعة 07:44 بتوقيت غرينتش

المرض.. كلمة لا تمثل لنا إلا الألم، بمجرد سماعها أو اقترابها من أجسادنا تنقبض قلوبنا نفوراً ورهبة وسرعان ما يتبادر إلى أذهاننا صور عديدة من الأسى والأنين وربما العجز، منتهياً بنا الحال على فراش الموت مسلوبي الإرادة بلا حول ولا قوة، تاركين وراءنا حياة خاوية خالية، لا شيء فيها سوى التأوه والتحسر على سنوات تمر أمام أعيننا ينهشها الألم بلا رحمة، وأحلام كنا نهفو إليها، تتوارى شيئاً فشيئاً، فقد حال بيننا المرض، ننظر إلى المرض، وكأنه وحشي شرس جاء ليقفر حياتنا فلا يبقى لنا منها إلا الألم.. الألم وفقط.

حسناً.. ماذا لو كان هذا الألم هو طريقنا إلى أنفسنا؟ كما قال الفيلسوف الألماني نيتشه: "إن الألم الشديد هو وحده الذي يخلص الروح ويحررها"، هذا الألم الطويل البطيء الذي يأخذ حظَّه من الوقت، والذي يستهلكنا كما يخترق الخشب الأخضر، هذا الألم وحده الذي يرغمنا على النزول إلى أعمق أغوار أنفسنا، أنا أشك في أن يكون من شأن هذا الألم تحسين أحوالنا، ولكن أعلم يقينا أنه يجعلنا أشد عمقاً.

وماذا لو كان هو مستحدث الإلهام فينا ونقطة انطلاقنا نحو الإبداع والتميز؟

وليس غريباً أن يربط أحدهم بين المرض والعبقرية في الإنسان، فالمرض يدفع الإنسان نحو التأمل والتعمق في كل الأشياء مهما بدت بسيطة، فيقول جيته، وهو كاتب ألماني مسرحي: "إذا رأيت كائناً من الكائنات قد امتاز امتيازاً خاصاً، فابحث سريعاً عن الناحية التي منها يتألم، بحث الفاحص الدقيق، فستجدها مفتاح كل تكوين وارتقاء".

"والألم حين يكون مفتاحاً لتكوين هوية المرء، وشغفه، وإلهامه وإبداعه، يتجسد لنا في حياة فريدا كاهلو" الرسامة المكسيكية التي أصيبت في السادسة من عمرها بشلل الأطفال، وأثر ذلك على ساقها اليمنى وترك عوجاً فيها، مؤثراً على نفسيتها فقد كانت ترتدي الجوارب الصوفية صيفاً لتخفي الإعاقة! ثم تعرضت لحادث أتوبيس وهي في الثامنة عشرة من عمرها، واضطرت إلى البقاء نائمة على ظهرها سنة كاملة دون حركة حتى إن والدتها وضعت لها سريراً متنقلاً ومرآة فوق السرير!

فتاة في بداية شبابها تمنع من الحركة سنة كاملة، قد تكون للبعض أشبه بسنة انتحارية تنهار فيها قواه ويفقد خلالها إقباله على الحياة ويغلق خلالها منافذ الأمل تماماً، ولكنها كانت مصدر إلهام فريداً وبداية رحلتها نحو الإبداع، فبنظرها لساعات إلى المرآة ظهر شغفها بالرسم، فطالبت والدتها بإحضار ريشة وألوان وأوراق الرسم، وكانت تنقل صورتها يومياً مجسّدة معاناتها، وتمسكت بذاك الشغف فتلقت دروساً خصوصية في الرسم، واستطاعت أن تعبر عن آلامها خلال لوحاتها.

اكتشاف الشغف "وما ذلك بهين"، إبداع في الرسم، نجاح وتميز، فيلم سينمائي بعد سنتين من وفاتها بعنوان "فريدا.. الحياة المتنافسة"، كل هذا تلا مرض فريدا، رحلة بدايتها الألم، لكن لم تجعل الألم يهزمها يوماً، بل دفعها نحو الارتقاء.

أما "ستيفن هوكينغ، عالم الفيزياء النظرية، الذي أصيب في الـ21 من عمره بمرض يدعى التصلب الجانب الضموري، مرض جعل منه مع مرور الزمن شخصاً غير قادر على الحركة حتى إن الأطباء أخبروه أنه لن يعيش أكثر من سنتين، لكنه لم يعبأ بأي من هذا، بل عاش سنوات طويلة، لم تكن معاناتها الوحيدة مرض فقد القدرة على الحركة لكنه أيضاً أُصيب بالتهاب رئوب انتهي بشق الحنجرة، مما أفقده القدرة على الكلام، فتحاور بالكتابة على الحاسوب ثم منحه أحد الأطباء برنامجاً ملتصقاً بالكرسي المتحرك يمنحه صوتاً صناعياً.

لم يتكيف مع المرض فحسب، بل تحداه بكل إصرار وعناد، فلم يأخذ أبداً المرض من طاقته أو روحه، بل ارتقى بها، لم يتخلّ عن شغفه بالعلم، فكان له دوره في تطوير علم الفيزياء، حتى إنه اُعتبر الوريث الشرعي لألبرت إينشتاين، وألفّ كتاب "موجز تاريخ الزمن لتبسيط المفاهيم المعقدة في الفيزياء"، واهتمامه بدراسة علم الكون والتسلسل الزمني.

تبدو لنا حياته مليئة بالفقد والعجز، لكنا حين نتأمل قوله: "قبل تشخيص حالتي المرضية، كنت أشعر بالملل الشديد من حياتي ولم يكن يبدو أن هناك شيئاً جديراً بأن أفعله، وأعتقد أنني أكثر سعادة الآن"، نجد شخصاً أحيا فيه الألم معنى الحياة وقيمة الأشياء والتشبث بحقه في أن يحيا كما يليق به.. إلى آخر لحظة بالعمر "كنت محظوظاً؛ لأن حالتي كانت تزداد سوءاً بوتيرة بطيئة مقارنة بما يحدث عادة، وهو ما يؤكد ضرورة ألا يفقد الإنسان الأمل".

وهذا معجزة الأدب العربي "مصطفى صادق الرافعي"، الأديب الأصم الذي لم يكمل دراسته بسبب علة أصابت أذنيه حتى فقد سمعه، ولم يعجزه هذا أبداً، وكان لا يزال طفلاً، طفل يمتلك إرادة لا يمتلكها من ضاعفوه سناً، فلم يشعره مرضه بمأساوية حياته ولم تفتر عزيمته، فقد دأب على القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، لا تشغله راحة جسده أو أعصابه، حتى صار أديباً عبقرياً، كلماته ومضات من نور، قيل فيه: "سيأتي اليوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان".

وقد تعمق في دراسة المرض وفهم فلسفته قائلاً: "الإنسان دائماً بحاجة إلى بعض الأمراض، لا ليمرض ولكن ليصح، إلا أنواعاً من أساليب الموت تسمى أمراضاً لا حيلة فيها"، ويقول وكأنه يشرح لنا كيف يكون المرض رحلة للارتقاء بالروح: "تأمل المريض وهو حائر النفس، متخاذل الأعضاء، كاسف الوجه، ميت الهوى، لا يتماسك مما به من الضعف، ولا ينبعث لما به من الخمود، ولا يتشهى لما به من الفتور، ولا يتذوق لما به من المرارة، ولا يجرؤ لما في حسه من الإشفاق، ولا ينظر إلى الدنيا إلا بملء عينيه زاهداً فيها، كأنما بث المرض في عينيه شعاعاً تنفذ الأمور إلى حقائقها ثم يخترق الحقائق إلى صميمها، أفلا ترى هنا الإنسان قد عمل فيه مرض أيام قليلة ما لا تعمل العبادة مثله في أزهد الناس إلا في السنين المتطاولة؟

"أتعلم أيها المريض أن أنينك عند الله كزجر المسبحين، ومن أسمى منك مقاماً؟!! فلا تبتئس إذا اصطفاك الله لرحلة المرض.. فالمرض كالبركان، قد يبدو كارثة، لكنه يخرج لنا المعادن ذات القيمة الاقتصادية الموجودة بالأرض، ومرضك كذلك، يكشف لك حقيقتك، سرائرك وغرائزك، ينفذ بك إلى أعماقك وخفايا نفسك، يجعلك تقدر الصحه وقت الألم، تمتن لكل لحظات الشفاء وتستمتع بالنقاهة، فلا تهدر العمر في التحسر وانهض بمرضك نحو الارتقاء بعقلك وروحك، فمهما كان ظاهره انتهاء فاجعل باطنه يقظة روح ورحلة بعث، وسيهديك الله السبيل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد