حكايات من الريف “4”| الفقر والموت.. لا ترحلي يا أمي!

كل ما تركه الزوج الراحل كوخ من "تراب" في أحد مداشر "ميضار" بإقليم "الدريوش"، معرض للانهيار في أي لحظة، و"حمار" عجوز عايش تصبّب عرق "فقير أحمد"، في سبيل "لقمة" للزوجة والبنات.. ووصية لـ"عبد الله"، ابن خالة "عائشة"؛ كي يعتني بهن، رغم كونه هو الآخر من نفس الطبقة الاجتماعية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/18 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/18 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش

شكّلت وفاة "فقير أحمد" مأساة حقيقية لـ"عائشة"، كأي زوجة تفقد شريك حياتها، بعد أن عاشت معه أزيدَ من عقدين من الزمن، بمرّها، و"مرها"، وأنجبت منه ثلاث بنات؛ حليمة، وسمية، وأصغرهن فاطمة. لقد كانت سنة 2002 مغايرة لسابقتها، بحملها إلى جانب القهر وتكرس الفقر، رحيل من كان يسهر على "لقمة العيش"، ممتطياً "حماره" كل يوم، متوجهاً إلى المجهول لجني رزق غير معلوم.. كان رحيله إنذاراً لـ"عائشة" بأن السنوات القادمة ستكون في أفضل الأحوال، أقسى من سالفتها.

كل ما تركه الزوج الراحل كوخ من "تراب" في أحد مداشر "ميضار" بإقليم "الدريوش"، معرض للانهيار في أي لحظة، و"حمار" عجوز عايش تصبّب عرق "فقير أحمد"، في سبيل "لقمة" للزوجة والبنات.. ووصية لـ"عبد الله"، ابن خالة "عائشة"؛ كي يعتني بهن، رغم كونه هو الآخر من نفس الطبقة الاجتماعية.

بقيت "عائشة"، صاحبة الأربعين سنة، حائرة في أمرها، متمسكةً بحبل الأمل، وحق بناتها في العيش.. ولو تحت سقف الفقر.. ضحت لتدخل "فاطمة" إلى المدرسة التي حرمت من الاستمرار فيها، سلمى وسمية، بسبب العوز.. كافحت الأم المكلومة لسنوات واستفادت من بعض القلوب الرحيمة لتوفير "الخبز"، ومن جهد ابن الخالة، حامل الوصية، والمشفق على حال أرملة وثلاث يتيمات.

كانت "عائشة" تخطو بجانب ابنتها "فاطمة" حتى المدرسة، وتنتظرها قرب منزل صغير.. أو أسفل شجرة زيتون.. تقف هناك ساعات وساعات، دون كلل أو ملل.. إلى أن تخرج الصغيرة، وتعود معها.. يداً في يد.. لم تكن تفارق البسمة مُحيّاها وهي تمشي بجانب طفلتها.. كانت تستمد حبها للحياة من بناتها الثلاث، كنّ بحق الشيء الوحيد الذي جعلها تقاوم المشاكل المتكاثرة، والأزمات المستفحلة.

بعد عشر سنوات من وفاة الزوج، أصيبت "عائشة"، التي بلغت الخمسين من عمرها، بضعف كبير في الكُليتين، وأصبحتا غير قادرتين على أداء دورهما.. ندرة المال والعيش في أعالي الجبال تجعل المرض يتجه نحوك مع كل لقمة.. وهذا ما جاءت به السنون إلى الأم المقهورة، فسقطت في الفراش لأيام طوال.. اصفر لونها وهزل جسمها وبات بقاؤها على قيد الحياة يحتاج لمعجزة حسب الطبيب.. إحساس صعب أن يعيش المرء وسط الفقر "المدقع"، ويفقد الشريك الذي حمل معه الهم اليومي، لكن الأصعب أن تسقط أُم سقيمة وترى أنها على أعتاب القبر، وعمر أكبر بناتها لم يتجاوز الـ17 سنة.. دموع الألم تنهمر، ليس بفعل الفقر، ولا المرض، لكن بسبب نفوس ستترك لطيمة في هذه الدنيا.. بلا أب "يحميهن" ولا أم "تحن" عليهن.. ويزيد انسكاب الدموع إبصار "حليمة" الشاحبة جنبها، و"سمية" التي لا تكف عن البكاء دقائق حتى تعود إليه.. والأقسى "فاطمة"، الطفلة البريئة، التي لم تسعفها سنتها العاشرة في فهم تفاصيل ما يقع، لكنها وبدون شك، علمت أن أمها ليست بخير، وهذا ما جعلها تقول بـ"اللهجة الريفية" للأم ما معناه: ستبقين معنا؟ لا ترحلي أرجوك!

كانت الطفلة لا تتجاوز الستة أشهر ساعة وفاة والدها، فلا تتذكر سوى أن أباها قد ذهب إلى السماء؛ حيث "الجنة"، وهو الآن أفضل حالاً منا.. فليس فقيراً، ولا مقهوراً، ولا مظلوماً، ولا مريضاً.. إنه عند الله.. كلمات الطفلة البريئة التي كانت ترددها من حين لآخر، تختزل الكثير، وهي الشيء الوحيد الذي جعلها تقول لأمها بألا ترحل، ربما لو كانت تعي ما تلفظ لأضافت: رغم أن الحياة هناك أفضل، لكننا هنا في حاجة إليك يا أمي.

المشيئة الإلهية.. ثم الإرادة القوية لـ"عائشة"، التي أبت أن تترك ثلاث بنات وسط حياة يحكمها "قانون الغاب".. جعلتها تنهض من جديد، وتكافح للاستمرار، ليس خدمة لجسدها النحيف، لكن في سبيل بناتها اللواتي شكّلن النور وسط الظلمة.. عاشت الأم بعد ذلك سنوات، شهدت خلالها موت بعض مَن حضر أيام (احتضارها)!

بقيت الأم "تقاوم" مصاعب الحياة رفقة بناتها، بالرغم من حالهن "المحقور"، لكن وجودها جنب فلذات كبدها الثلاث يخفف أثر الظلم.. هكذا الحياة في الجبال الريفية "المنسية".. هكذا تبدأ عند كثيرين كـ"عائشة".. وتستمر على نفس الحال.. إلى أن تنهي قساوتها سكرات الموت.. إن وُلد الشخص هناك عاش فقيراً.. وإن مرض مات سقيماً.. وحتى من حاله ميسورة خسر ماله في الطرقات، بسبب غياب المستشفيات أو غياب التجهيزات!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد