مقدمة:
يُعرِّف عالم الاجتماع البولوني "زيقمونت باومان" في كتابه "الحياة السائلة" مجتمع الحداثة السائلة بأنه "مجتمعٌ تتغير الظروف التي يتفاعل فيها أفراده في وقت أقل مما يلزم للأفعال أن تتحول إلى عاداتٍ وأنماط"، هذه هي الحياة التي نعيشها اليوم ولا شك، سواءً كنت في شوارع نيويورك، أم في إحدى الغابات الاستوائية… فإن الكوربوراتيزم لن يتركك دون أن تستهلك منتجاته، وتفني وقتك في استهلاك ما صمم ليلبي رغبتك ويوجدها لك إن لم توجد. وهاهنا لم يخطئ كارل ماركس الاستشراف حين قال: "ستتحول الحياة إلى عملية ركض متواصل ينسحق فيها تحت الحشود من يتوقف ليلتقط أنفاسه".
في هذا الواقع، كل تنظيمٍ لا يستشرف المستقبل جيداً ويعيش في حالة نمطية ثابتة يكون مآله الاندثار بأسرع مما يتخيل. ومن أفضل الأدلة على هذا ما عاشته شركاتٌ عملاقة مثل شركة نوكيا للهواتف الخلوية، التي لم ترَ التغيير قادماً، فأخذها طوفان الحياة السائلة.
لا شك أن نسق الحياة كما أريد له أن يكون له تبعات على القضايا الكبرى، ومن أهمها: الأيديولوجيا والممارسة السياسية.
السرديات الكبرى في عصر الحداثة السائلة.
يتسم عصر السيولة بأن الثروة فيه قد تتخذ أشكالاً غير تقليدية [سائلة] مثل تقنية المعلومات والأفكار، هذا العصر ليست أغنى شركات العالم فيه شركات البترول أو الذهب، بل شركات مثل فيسبوك وجوجل ومايكروسوفت… حيث رأس المال فكرة… ومنصة افتراضية.
وبالتالي، فلم تساهم وسائل التواصل في إضفاء سهولة على تنقل الأشخاص والسلع والخدمات وحسب، بل استحالت المعلومة والفكرة -من حيث هي- بضاعةً قابلة للمضاربة. تحولت سيولة المعلومة والصورة بالتالي إلى فضاءٍ للمضاربة في الرغبات كدافعٍ أساسي للاستهلاك، والمضاربة في الرغبات تنتج بالضرورة مضاربةً في الإحباط. ومن هنا نشأت الشركات متعددة الجنسيات المختصة في تبضيع الإحباط… وأهمها داعش! أي أنها منتوج مباشرٌ للعولمة، رأس مالها سيولة الإحباط، ومنتوجها الخوف… والخوف المُعولم مقدّمة ومبرّر قويّ للأمن المُعولم. وهذا واضحٌ أيضاً في نمطها التسويقي (الماركتينغ) المعتمد على تقنيات تسويقية هوليودية.
والخلاصة أن الثورة الرقمية أنتجت سيولة المعلومة كمنتج ربحي… فتعممت المضاربة ببضاعة الفانتازم واللذة وحتى…. الإحباط. فما هو تأثير الحداثة السائلة على الأيديولوجيا والسياسة؟
الأيديولوجيا هي منظومة أفكار، تحمل في طياتها تفسيراً تكاملياً للوجود في خطوطه العامة، وتنتج بالتالي عنها سرديات تمثل تسلسلاً منطقياً أو جدلياً للأفكار يفسر الحاضر ويحيل إلى المستقبل ويعد بالخلاص [المادي أو الماورائي].
أما السياسة فهي، في وجه منها، تنزيل الأيديولوجيا على الواقع… أي أنها الممارسة الواقعية للتنظيرات الفلسفية. السياسة نقلة من رومانسية الثورة والفكرة، إلى أغلال الواقع والدولة… ومن أريحية السردية الكبرى وتناسقها، إلى ضيق الحقيقة وتناقضها… من خميسٍ من المناضلين حولك لا يضن أحدهم على فكرته بما يملك ولا يملك، إلى شعبٍ وراءك يطالبك بقوت عياله، ويزيد.
وبما أن الواقع في مجتمعات الحداثة السائلة يتغير بنسق أسرع من نسق استقرار أنماط الممارسة السياسية، فإن الإشكالية يمكن صياغتها مختصرةً في "استقرار المعنى، وسيولة الواقع". أي أن الفكرة في مجالها مستقرة… وفي تطبيقها عاجزٌ صاحبها على تحويلها إلى نسق ممارسة يفعل في الواقع ويغيره.
وبالتالي فإن من بين أهم النقاط الواجب على أي تنظيم سياسي أخذها بعين الاعتبار كي لا تغرقه الحداثة السائلة، هو تغيير الهيكلة بإحداث جهازٍ ذي وزن يكون مسؤولاً عن التفكير الاستراتيجي والاستشراف المبكر للتغيرات، ويكون مستقلاً عن الجهاز التنفيذي للحزب. يكون الدور الأساسي الموكل لهذا الجهاز هو إنتاج توصيات تعكس فهمه للسياق الحاضر، واستشرافه لما هو قابلٌ للتغير في هذا السياق مستقبلاً.
تغير قواعد الممارسة السياسية في زمن الحداثة السائلة: الزعامة مثالاً.
الزعيم، في الممارسة السياسية التقليدية، محركٌ للجماهير، ملهمٌ للأفكار، اختصارٌ للحلم بين ضلوع إنسان، وتجسيدٌ للحقيقة في ذهن الجمهور ووجدانه، وإن قيل خلاف ذلك.
أي أن هذا العنصر ضروري لازم الوجود في سبيل اختزال الجهود على العامة وتوفير طاقة التفكير جزئياً عندهم… قائدٌ ملهم وفكرةٌ "واضحة" يشربها الجمهور على عجلٍ ويستنهض طاقته من أجل المشروع… أي جمالٍ أكثر من هذا!؟
والمفارقة في الموضوع أن المهم في القائد ليس حقيقته… بل صورته! فلا بد من جهدٍ معتبر من أجل إظهار الزعيم… في صورة تليق بالزعامة، وقص كل ما يشينه. كان هذا التمشي ممكناً، حين كانت الصورة والمعلومة تحت السيطرة.
أما اليوم، في زمن الحداثة السائلة فإن الفكرة، المعلومة، الصورة، والمشهدية… كلها أصبحت ملكاً مشاعاً مطلقاً لا حدود له. والسيطرة على تنقل الأفكار والصور هو من قبيل أساطير الأولين!
أدلة فشل مقاربة صنع الزعيم كثيرةٌ من بينها: لاحظ صورة السيسي رغم كل محاولات إضفاء الهلامية والزعاماتية عليه… هو في وجدان الجمهور (أو كثيرٌ منهم) ديكتاتورٌ دموي، إنسانٌ تافه معقود اللسان… ومجرمٌ خائنٌ لوطنه وشعبه.
لذلك، فقد أعلنت ثورة السيولة المعلوماتية الحداد على أنماط الفعل السياسي القديمة، وبذلك انتهت إمكانية التعويل على صورة الزعيم كإحدى أكثر الأدوات فاعلية في الممارسة السياسية إلى الأبد. وكل من يعول اليوم عليها… سيأتيه الفشل من كل مكان. ذلك أن سيولة المعلومة تجعل من السهولة بمكان إسقاط "صرح" بني بعد جهود مضنية بنشرية فايسبوك يتيمة، أو فيديو ببضع ثوانٍ على سناب شات.
خلاصة:
تهدف هذه التدوينة إلى تسليط الضوء على غزو نمط السوق عالم الأفكار، وتأثير الحداثة السائلة على الممارسة السياسية كترجمة وتجسيد للتوجهات الفكرية، أما خلاصته فهي ضرورة تغيير أنماط الفعل السياسي هيكلياً وموضوعياً لتفادي الغرق في سيولة الحداثة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.