انتهت الزوبعة التي أحدثها التحقيق الاستقصائي المرئي للزميلة الصحفية هاجر حرب، حول قضية "استغلال بعض الأطباء في مستشفى الشفاء بغزة لمناصبهم ووظيفتهم لـبيع تحويلات طبية لغير مستحقيها للعلاج بالخارج"، والذي تم بثه عبر شبكة العربي.
تبخر كل شيء وكأن شيئاً لم يكن، والنتيجة حتى اللحظة: تعليقات في العالم الافتراضي وردود باهتة من الجهات الرسمية يقابلها بوستات نارية من المواطنين الغاضبين، أما في العالم الحقيقي فالنتيجة الدائمة في عالمنا العربي "يبقى الحال على ما هو عليه، والهدف هو النيل من سمعة ومكانة النظام والمؤسسة والحزب والمناضلين الشرفاء".
هذه النهاية المأساوية لسلسلة التحقيقات الاستقصائية في فلسطين والعالم العربي تمثل رسالة من الفاسدين إلى كل من يحاول الإصلاح وكشف المستور في جوانب الحياة المختلفة مفادها أن "الفساد باقٍ طالما لا قانون ولا محاسبة ولا شفافية ولا نزاهة لدى القائمين على أمور الناس".. إنهم يراهنون على أنها "عاصفة وزوبعة" تمر سريعاً مر السحاب، ثم ما يلبث المجتمع أن ينشغل بقضية أخرى دون متابعة أو منهجية في التعاطي مع مثل هذه القضايا المهمة.
إنها نهاية يعززها ارتفاع منسوب الفساد فلسطينياً وعربياً؛ حيث أظهر استطلاع أجراه مؤخراً المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال شهر يونيو/حزيران أن 80% من الفلسطينيين يعتقدون بوجود فساد في مؤسسات السلطة.
ووفقاً لمقياس الفساد العالمي للعام الماضي GCB في إحدى عشرة دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بينها فلسطين، والذي نفذته منظمة الشفافية الدولية من خلال الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، فقد أظهرت النتائج اعتقاد 70% من المواطنين المستطلعة آراؤهم بأن الفساد قد ازداد خلال العام 2014، منتقدين بشدة أداء الحكومة الفلسطينية في معالجة قضايا الفساد.
"مأسسة" الفساد..
لو راجعنا عناوين التحقيقات الاستقصائية التي ينتجها الصحفيون من خلال شبكة أريج للصحافة الاستقصائية في العالم العربي، لاكتشفنا حجم الخطر المحدق بالمواطن العربي لانتهاك حقوقه واستغلاله وابتزازه في كافة مجالات الحياة وفي كافة الحقوق التي من حقه التمتع بها.
لكن في المقابل تجد أن النسبة المئوية لأصداء التحقيقات والنتائج العملية التي ترتبت على كشف قضايا الفساد والمتورطين بها، خاصة إذا كانوا مقربين من الأنظمة والأحزاب والمؤسسات الحاكمة، لا تذكر مقارنة بحجم قضايا الفساد في العالم العربي.
قضايا الفساد موجودة في كل العالم، ولم تعد سراً يذاع، لكن في العالم الذي يحتكم إلى القانون وإلى منظومة العمل المؤسسي نجد أنه لا غطاء للفاسدين، ولنا في النماذج العالمية أمثلة متعددة في هذا الإطار في دول عدة من بينها كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاكم قادته، وهو ما لا نراه ولا نلمسه في عالمنا العربي إلا بصورة نادرة، ولنا في الثورات العربية أكبر النماذج على عدم محاسبة الفاسدين.
قد يرى البعض أن مهمة الصحفي هي الكشف عن قضايا الفساد وتوضيح الحقائق للمواطنين وللرأي العام، ومهمة الجهات المسؤولة والمعنية هي متابعة تلك القضايا والتحقق من المتورطين في الفساد ومحاسبتهم ومساءلتهم، وهو كلام سليم في حال وجود مؤسسة ونظام وقانون، لكن طالما أن الجهة المخولة بالمحاسبة تحتاج غالباً إلى محاسبة، فإن مهمة الصحفي يجب أن تتضاعف وتتجاوز حالة إنجاز التحقيق إلى الانخراط في عمل منظم لإجبار المؤسسة القائمة على اتخاذ إجراءات لمحاسبة الفاسدين وإنصاف المظلومين والمنتهكة حقوقهم.
ماذا قبل وبعد النشر؟!
التحقيق الاستقصائي الذي أشرت إليه في مقدمة حديثي كشف شكلاً من أشكال الفساد القائم منذ سنوات في المجتمع الفلسطيني، والذي تحول مع الوقت إلى منظومة ومنهجية للعمل لدى العديد من المؤسسات الحكومية.
وهو ليس الأول وبالتأكيد لن يكون الأخير، فقد سبقته سلسلة تحقيقات مهمة تناولت أوضاع المؤسسات الفلسطينية والسفارات الفلسطينية والفساد الذي "يعشعش" داخلها، والفساد في بعض مؤسسات العمل الأهلي وقضية احتكار الأسمنت ورواتب الموظفين والأدوية والمواد الغذائية المنتهية الصلاحية، وغير ذلك والنتيجة "لا تغيير".
الوضع المحبط للصحفيين الاستقصائيين في دول العالم العربي، ومن بينها فلسطين، بفعل التستر على الفاسدين وعدم محاسبتهم، يجب أن يتم التعامل معه بمنهجية جديدة ومنظومة للعمل تنطلق من أن نتائج الكشف عن قضايا الفساد يجب أن تبقى العنوان العريض للمؤسسات الإعلامية والحقوقية والمهنية ذات العلاقة حتى تُحدث التأثير المطلوب.
لذا أرى أن المطلوب من الصحفيين الغيورين على مصلحة وطنهم -وأحسبهم جميعاً كذلك بغض النظر عن اختلافات الفكر والسياسة- أن يتجاوزوا حالة إنجاز تحقيق مهم إلى أخذ زمام الأمور والتفكير الجدي فيما بعد التحقيق؛ لأن الهدف ليس تسجيل نقطة لصالح الصحفي أو للفوز بمسابقة أو للعمل ضد مؤسسة معينة لحساب مؤسسة أخرى.. الهدف الرئيسي هو محاربة السلوك الفاسد والأنظمة الفاسدة والممارسات الفاسدة؛ لأنها تنتهك حق الفرد والمجتمع وتعد عملاً غير أخلاقي.
المطلوب قبل وبعد كل تحقيق استقصائي مهني أن يتم تنظيم حملة إعلامية بمشاركة معظم المؤسسات الإعلامية لتضع الجميع أمام مسؤولياته وترغم أصحاب القرار على اتخاذ خطوات حقيقية بحق المتورطين في قضايا الفساد، مع عدم الاكتفاء مطلقاً بتصريحات المسؤولين التي تمثل إبر تخدير بقولهم: "سنشكل لجنة أو شكلنا لجنة لمتابعة التحقيق"؛ لأنه بداية الهروب المنظم من استحقاقات محاسبة الفاسدين.
وأتوجه إلى الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية تعزيز ورعاية جهود الإعلاميين الفلسطينيين لمواجهة الفساد بأن يعملوا على تفعيل شبكة الإعلاميين من أجل النزاهة والشفافية؛ لتمارس دورها الفاعل في هذا الإطار، وهو دور يتجاوز كما ذكرت إنجاز التحقيقات الاستقصائية وإقامة المسابقات المهنية لتشجيع الإعلاميين على ممارسة دورهم الرقابي من خلال إجراء التحقيقات الاستقصائية.
إيماننا برسالتنا السامية يجب أن يبقى المحرك والدافع الرئيسي للعمل بلا هوادة ضد الفاسدين، وهو ما يتطلب انتهاج سياسة "النفس الطويل" والعمل بمنهجية بعيداً عن العشوائية والتفكير بتكوين "لوبي" ضاغط يضم كافة الجهات الداعمة لحقوق المواطنين من نقابات ومؤسسات حقوقية وجمعيات وقادة رأي وغير ذلك؛ ليتصدوا جميعاً للفساد.
لا تنتظروا من الجهات الرسمية أن تهديكم حق ملاحقة الفاسدين، فقد تعلمنا منذ الصغر أن "الحقوق تنتزع ولا توهب"، ولا تنتظروا منها أن تشرع وتصدر لكم القوانين التي من شأنها أن تمنحكم الحق في الحصول على المعلومات من أجل كشف الحقائق للجمهور، فقاتلوا بأسلحتكم المهنية وبكل نزاهة وشفافية حتى لا تقعوا في فخ الفساد بقصد أو من دون قصد.
المهمة إذا أصبحت جماعية ومنظمة، فلا يمكن للجهة الحاكمة مهما بلغت سطوتها وجبروتها أن تهملها وتتغاضى عن تأثيراتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.