عبودية أم استعباد؟

هؤلاء السياسيون الذين فجأة صاروا قلقين على وضع البشرية، هل نسوا أن الذين يتم بيعهم هم رجال هاربون من نفس البلدان التي ينتمون إليها أنفسهم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/05 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/05 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش

في الأسبوع الماضي تداولت الصحف ووسائل الإعلام خبر بيع العبيد الأفارقة في ليبيا.

تعود الأحداث إلى أبريل/نيسان الماضي حين نشرت الجمعية الدولية للهجرة [1] تقريراً مفاده أن هناك شكوكاً تحوم حول فرضية وجود خلايا تتاجر بالبشر أو بمعنى آخر لها أسواق حرة لبيع العبيد.

بعد انتشار هذا الخبر شرعت وكالة الأنباء الأميركية "سي إن إن" [2] بإجراء تحريات لتنشر التأكيد موثقاً بفيديو يثبت صحة الشكوك.

إذ تمكن صحفيّو هذه القناة مستعينين بكاميرا مخفية من تسجيل صفقة بيع ليلية بالمزاد في العاصمة الليبية طرابلس.

وقد أفاد مراسلو الوكالة الذين أجروا هذا التقرير بأن مجموعة من الأفارقة السود لا يقل عددهم عن 12 تم بيعهم في ظرف سبع دقائق إلى من يدفع أكثر.

إثر إتمام الصفقة، حاول فريق القناة التحدث مع اثنين من هؤلاء الذين تم شراؤهم لكن خوفهم من أسيادهم لم يمكنهم من الكلام.

وحسب نفس التقرير، فإن ثمن العبد الواحد يتراوح بين الألف والألف وثلاثمائة دينار ليبي، أي ما يعادل تقريباً 500 دولار أميركي لا أكثر.

هذا الخبر جاء صادماً وندد الجميع بما رأوه عودة للعبودية وبيع البشر علناً.

في فرنسا على سبيل المثال لا الحصر تظاهر العديد في الشوارع الباريسية ورفعوا لافتات تعبّر عن غضبهم وسخطهم عما يحصل.

العديد من المشاهير أيضاً، كل على طريقته، قاموا بإبداء ألمهم وحزنهم تجاه مثل هذه الممارسات اللاإنسانية على حد قولهم.

العديد من لاعبي كرة القدم الأفارقة المحترفين في البطولات الأوروبية تفاعلوا مع هذا الخبر على غرار لاعب مانشستر يونايتد بول بوجبا [3] أو جوفراي كوندوغبيا [4] الفرنسي من أصول وسط إفريقية الناشط بالبطولة الإسبانية الذي خط بالبنط العريض على قميصه أنه خارج ميدان كرة القدم ليس قابلاً للبيع.

بعيداً عن الرياضة وفي مجال الفن، نشر مغني الريغي الإيفواري آلفا بلوندي [5] فيديو على صفحته الخاصة بالفيسبوك ناقداً فيها رؤساء الاتحاد الإفريقي لعدم تحركهم وصمتهم تجاه ما يحدث.

وعبرت لاحقاً بعض الشخصيات السياسية من رؤساء ووزراء عن حزنهم لما رأوه في التقرير، داعين السلطات الليبية والمنظمات الدولية إلى التحرك السريع لإيقاف هذه المأساة.

ما شد انتباهي في ردود فعل السياسيين أن جلها لكي لا نقول كلها تحمل الدولة الليبية المسؤولية التامة، وتطلب منها التصدي وفوراً للمتاجرة بالبشر.

وهنا لسائل أن يتساءل: هل فعلاً ما حصل هو خارق للعادة؟ وبقولي خارقاً للعادة أعني مخالفاً وغريباً عن ممارسات البشر يومياً.

الإجابة واحدة وحتمية، ما حصل ليس إلا كشفاً لما كان البعض لا يراه أو بالأحرى يراه ويكذبه، يتفاداه خوفاً من مرارة الشعور بالذنب.

أجل، أنا أعي ما أقول، استعباد البشر هي ممارسات يومية متكررة، مألوفة وجلية للجميع، لا غبار عليها.

الكل مسؤول بطريقة أو بأخرى عما يحصل، الكل من مكانه مشارك، إما بصمته أو بلا مبالاته أو بعدم رغبته في رؤية الحقيقة.

فهؤلاء السياسيون الذين فجأة صاروا قلقين على وضع البشرية، هل نسوا أن الذين يتم بيعهم هم رجال هاربون من نفس البلدان التي ينتمون إليها أنفسهم.

هربوا بحثاً عن لقمة العيش في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، هربوا لأن قادة بلدانهم لم يطعموهم ولم يشغلوهم ولم يرحموهم.

عندما فشلت عملية عبورهم للمتوسط صارو سلعة يتاجر بها، هربوا من استعباد الفقر لهم ليجدوا أنفسهم رقيقاً (الرقيق هي كلمة مرادفة لكلمة عبيد)، مملوكين في بلد غريب مع أناس لا يعرفونهم.

العبودية هي امتلاك الإنسان لإنسان آخر الذي يستعمل عامة لخدمة مَن اشتراه.

ويصبح هذا الإنسان بعد صفقة بيعه شيئاً أي بمعنى آخر يجرد من إنسانيته، فهو لا يستطيع لا التفكير ولا التقرير ولا التحكم في أي جزء من أجزاء حياته، لا آراء ولا حرية له.

للسيد حق قتل عبده إن لم يمتثل إلى إرادته ومشيئته، عليه أن ينفذ التوجيهات دون تساؤل أو تفكير، العبد إذن هو إنسان مجرد من فكره.

العبودية في مفهومها العام تعني بيع البشر في أسواق النخاسة، أما الاستعباد فهو مصدر يعني بدرجة أولى استرقاق شخص ما لكن هذا المصدر من منظوري الشخصي يختلف لغوياً عن كلمة عبودية، كونه يحتوي على تلميحات مفهومية تدل على تعدد أشكال الانقضاض على حرية الإنسان من خلال سلبه أبسط حقوقه.

الاستعباد بنظري خلافاً للعبودية لا يحتم امتلاك الشخص للشخص، الاستعباد لا لون ولا رائحة له، موجود بيننا في كل زوايا الحياة.

في ماضينا، وحاضرنا ومستقبلنا، ولعل مستقبلنا أبشع مما مضى أشد قسوة، ألسنا كلنا عبيد هذه الرأسمالية المتوحشة؟ لعل البعض لا يعي أو لا يريد ذلك؛ لأن لقمة العيش تجبره على أن ينساق مع التيار، وأن يستعبد ويستعبد في الآن ذاته.

وبالعودة إلى الإطار الذي تمت فيه صفقة بيع هؤلاء المهاجرين الأفارقة، أي الدولة الليبية، تعود بنا الذاكرة إلى بضع سنوات إلى الوراء حين تدخلت بلدان غربية في سيادة هذا البلد، أوليس هذا شكلاً من أشكال العبودية في حد ذاته؟ أن تقرر دولة أخرى مصير شعوب لا تنتمي إليها هو استعباد لسيادة هؤلاء الناس واستنقاص من ذكائهم.

مهماً كانت الأسباب فإن مثل هذه التدخلات العسكرية هي نموذج من نماذج الاستعباد اليومي للناس المستضعفين والمعذبين في الأرض.

ولو لم تكن ليبيا مقسمة منهكة من ويلات الحرب التي لم تخترها لما رأينا بشراً يباعون على أراضيها.

دولة ليبيا بريئة مما يحدث وعلى الرؤساء الأفارقة الذين طالبوها بالتحرك أن يجدوا حلولاً لشعوبهم التي أنهكها الفقر والحرمان والتوقف عن رمي الكرة في شباك فارغة.

أما البلدان الغربية فعوضاً عن التدخل في شؤون الآخرين من الأرجح عليهم أن يجدوا حلاً جذرياً لظاهرة الهجرة غير الشرعية التي يروح ضحيتها العديد من الأرواح البشرية.

على حكومات بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط أن تتدخل فوراً، ليس لانتهاك سيادة بلد ما، بل للتوصل إلى حل جماعي لهجرة الجنوب إلى الشمال، لقد صرنا سايبورغ لا أخلاق ولا قيم لنا، وكما قال أحمد شوقي: وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ ** فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ذَهَبُوا

وللأسف فإن أخلاقنا في تيار الذهاب تسير وإن لم نوقفها، فإن الشعوب ستلحقها ويجرفنا السيل معاً ويلفظنا بعيداً دون رجعة.

وختاماً للإجابة عن السؤال الذي طرحته في العنوان أقول: إن العبودية والاستعباد هما وجهان لعملة واحدة، وجهان لحقيقة واحدة، حقيقة أننا بشر مستعبدون ويستعبدون في الآن نفسه شعورياً أو لا شعورياً، العبودية هي نتيجة الاستعباد.

[1]International Organization for Migration
[2] CNN
[3]Paul Pogba, Manchester United
[4] Geoffrey Kondogbia, FC Valence
[5]Alpha Blondy

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد