من أصل خمس مدارس سورية في ولايتي هاتاي ومرسين، استقصينا تجاربها، تقوم مدرسة واحدة فقط على أكتاف مختصين، وتخلو من العيوب الجسيمة التي تهدد العملية التعليمية فضلاً عن التربوية، فيما تخضع الباقيات لإدارات "مستثمرين" لا تربطهم بالعملية التربوية أو التعليمية صلة، فضلاً عن أنهم لا يحملون شهادات جامعية.. وغير بعيد بالمعنى الجغرافي والسياقي، يتربع رجل شرطة سابق على عرش إدارة مدرسية أيضاً، وكأنه يقول لرجال دين يديرون مدارس قريباً وبعيداً منه: لم ولن تكونوا أكثر مني شطارة ومسارعة إلى الخيرات!.
ومع القرار الجديد القاضي بإخضاع المعلمين الموجودين على رأس عملهم لدورة تدريبية معنية بإعداد الكوادر التعليمية، من قِبل وزارة التعليم التركية، ومنحهم شهادة ممهورة بخاتم الوزارة في نهايتها، يكون المزوّرون الذين تبلغ نسبتهم ما بين 20 و50% من الأميّين وأصحاب الشهادات المزورة وغير المختصين، قد نالوا جواز عبور رسمياً ونهائياً؛ ليعيثوا في مستقبل الجيل فساداً بسلطة القانون وحمايته، ما يجعل الأمر يتحول من خطأ إلى خطيئة.
وقد استقبلت تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين حول العالم خلال السنوات الخمس الفائتة من عمر الثورة والحرب السورية، وقد قدرت الأمم المتحدة والحكومة التركية عددهم بـ 2.5 مليون لاجئ حتى نهاية عام 2015.
وبعد توفير الملاذ الآمن، حاولت تركيا العمل على تقديم الخدمات الأساسية لكل من حصل على حق الحماية المؤقتة من السوريين فيها، مستهدفة الطبابة والتعليم في الدرجة الأولى، فحققت نجاحاً استحق الإشادة والتقدير في المجال الصحي، بينما ما زال ملف التعليم شائكاً ويزداد تعقيداً مع مرور الوقت بدل حلحلة عقده وتداخلاته الكثيرة.
أرقام وإحصائيات
أفادت مصادر صحفية تركية بأن عدد الطلاب السوريين الذين توجهوا إلى المدارس مع بداية العام الدراسي الحالي 2015 – 2016 بلغ 370 ألفاً من مختلف المراحل، يدرسون في المدارس المؤقتة البالغ عددها 230 مدرسة من مرحلة الحضانة والابتدائية والإعدادية والثانوية، فضلاً عن 70 ألفاً آخرين التحقوا بالمدارس الحكومية التركية، في حين وصل عدد الطلاب المتسربين من العملية التربوية إلى 300 ألف طالب.
وأشارت المصادر إلى أن السلطات التركية زادت قدرة استيعاب مراكز التعليم المؤقتة، من 199 ألف طالب إلى 299 ألف طالب، وسيتلقى نحو 370 ألف طالب التعليم في المراكز المعنية التي تم تأسيسها لتعليم الطلاب السوريين فقط.
وكان عدد الطلاب السوريين داخل مراكز السكن المؤقتة في مرحلة الحضانة خلال العام الدراسي 2014 – 2015، قد بلغ 8 آلاف و325 طالباً، وعدد طلاب المرحلة الابتدائية 45 ألفاً و147 طالباً، والمرحلة الإعدادية 19 ألفاً و536 طالباً، والمرحلة الثانوية 9 آلاف و414 طالباً.
أما عدد طلاب مرحلة الحضانة في مراكز التعليم المؤقتة داخل المدن فقد بلغ 4 آلاف و508 طلاب، وعدد طلاب المرحلة الابتدائية 59 ألفاً و450 طالباً، والمرحلة الإعدادية 32 ألفاً و407 طلاب، والمرحلة الثانوية 9 آلاف و400 طالب؛ ليصل العدد الإجمالي منهم إلى 105 آلاف و765 طالباً سورياً.
ولفتت المصادر الصحفية إلى أن السلطات التركية أسهمت بشكل فعال في تأسيس 266 مركز تعليم مؤقتاً خلال العام الدراسي الحالي 2015 – 2016، منها 34 مركزاً داخل مراكز السكن الجماعي، و232 مركزاً في المدن التي يوجد فيها السوريون بشكل كثيف، وتخطط السلطات إلى رفع عدد مراكز التعليم في العام الدراسي الجديد بمقدار 50 مركزاً على الأقل، وزيادة القدرة الاستيعابية إلى 100 ألف على الأقل.
بين وزارتين وضمير مستتر
المساهمات والجهود الحثيثة لوزارة التعليم التركية كما تظهر الإحصاءات السابقة، بقيت محل شكوك وتساؤلات واتهامات بالتقصير، فما تسميها الوزارة التركية مراكز تعليم مؤقت وتقول إنها أسهمت في إنشائها، ما هي إلا مدارس شبه خاصة، لا تنطبق عليها شروط واحدة ولا معايير ولا يضبطها منهج أو مرجعية، ما يجعل ملف التعليم في تركيا فريداً ومغايراً لا تشبهه حالة في الدول التي استهدفها اللجوء السوري حول العالم.
فمنذ أربعة أعوام دراسية، كان وما زال الحبل على غاربه لمن أراد الاستثمار في التعليم، ويكفي أن تستأجر شقة أو اثنتين أو مبنى كاملاً، وتستقطب عشرات الطلاب، وتعين كادراً على هواك، وتقلع!.. لا رقيب عليك ولا حسيب.
وهذا ما يفسر تعدد المناهج الدراسية حتى السنة الماضية (سوري معدل، ليبي، سوداني..)، والتوجهات الدينية من المعتدل إلى المتطرف إلى الموغل في تطرفه، فالأمر يتعلق بالداعم وتوجهاته الفكرية وغرضه من إنشاء مدرسة والاستثمار في صناعة الجيل.
وقد بقيت وزارة التعليم التركية بعيدة عن التدخل المباشر طوال ثلاث سنوات، مفسحة المجال لوزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة، التي بقيت عاجزة حيال الأمر، لم تستطِع أن تقدم شيئاً لأحد، وبالتالي لم تستطِع أن تغير ولو مثقال ذرة في توجه أحد، فقررت الوزارة التركية استعادة الملف وزمام المبادرة بدءاً من العام الماضي، فعمدت إلى تعيين مشرف تركي من قبلها في كل مدرسة سورية، يكون رقيباً وصلة وصل، إلا أن شيئاً لم يتغير، وبقيت كل مدرسة مستقلة بذاتها، وحده مديرها وداعمها يقرر المنهج والتوجه الفكري ويختار الكادر بما يتناسب وطموحاته أو أغراضه ونياته.
الشهادة بـ100 دولار والطالب والخريج يدفعان الثمن
وبما أن صاحب المدرسة ومديرها هو الربان الأوحد، فهو وحده القائم على تعيين الكادر التعليمي والتحكم بمصيره، لا ينازعه ولا يشاركه أحد، ومن هنا بدأت تنتشر ظاهرة المدارس العائلية، خصوصاً بعد تخصيص راتب اعتباراً من منتصف العام السابق، بعد شراكة بين اليونيسيف والحكومة التركية، حيث صار المعلم يتقاضى 530 ليرة تركية شهرياً، قبل أن يرتفع هذا التعويض إلى 900 ليرة ما يعادل 300 دولار مع بداية عام 2016.
وهنا بدأنا نلحظ ظاهرة تكاثر سرطاني للمدارس السورية؛ حيث ارتفعت خلال فصل دراسي واحد بمعدل 50% تقريباً، وهي مشاريع استثمارية ربحية بحتة، تقوم على افتتاح مدرسة صغيرة وتعيين الأهل والأقارب ومعظمهم إما لا يحملون شهادات جامعية أو غير متخصصين في العملية التعليمية والتربوية، وكل ما على المدير أو المعلم فعله هو شراء شهادة جامعية بالاختصاص المطلوب بـ100 دولار فقط، والمكاتب الافتراضية التي تؤمّن هذه الشهادات صارت في تركيا أو الداخل السوري أكثر من طالبي الشهادات أنفسهم.
ووفق شهادات مدرسين ومديرين وأولياء أمور، فإن نسبة حملة الشهادات المزورة وغير المتخصصين في بعض المدارس المفتتحة مؤخراً تتجاوز النصف، بعضهم لا يحمل شهادة ثانوية حتى.. وبعضهم أقل من ذلك، ومن العادي جداً والمألوف أن ترى مدرسة يديرها طاقم من الأطباء والمهندسين والمحامين، علماً أن أصحاب الاختصاصات والخبرات تتراكم طلباتهم في الأدراج، ويستجدون أنصاف الأميين للرأفة بحالهم.
ومع غياب كامل لوزارة التعليم في الحكومة المؤقتة، سعت الوزارة التركية المعنية إلى رأب الصدع وترقيع ما يمكن، فصارت تجري مقابلات شكلية للمدرسين المراد تعيينهم، إلا أنها بقيت شكلية من دون أي آلية للتحقق من صحة الشهادة التي يبرزها طالب الوظيفة، وفي محاولة منها لجعل المدارس المستحدثة حقيقية ومجدية في استيعاب أكبر عدد ممكن من المتسربين، أصدرت الوزارة التركية قراراً يقضي بعدم اعتماد أي مدرسة لا تحقق نصاب 200 طالب، إلا أن هذا القرار بقي حتى اللحظة حبراً على ورق، حيث رصدنا مدارس قائمة لم تحقق العدد المنصوص عنه في القرار.
استثمار أخلاقي أم تجارة؟
بما أن الحكومة التركية لا تمنح صاحب المدرسة بناء ولا تجهيزات ولا أثاثاً في البداية، وعليه هو وحده تأمين كل هذه المستلزمات، فكيف يمكن أن تكون المدرسة مشروعاً استثمارياً رابحاً على اعتبار أن الرواتب التي سيتقاضاها هو وأفراد أسرته الذين عينهم لا يمكن أن تغطي نفقات أجرة مبنى المدرسة ومصاريفها؟..
بحسب الشهادات التي حصلنا عليها، ووفق رصدنا، فإن مديري وأصحاب المدارس لجأوا إلى عدة طرق لسد هذه المصاريف وربما زيادة عليها، وذلك من خلال فرض قسط فصلي أو شهري (طبعاً هذا للمدارس المجانية)، يؤمّن عادة أجرة البناء السنوية ومصاريف التشغيل، ويحسب ويوزع على الطلاب وفق ذلك، وقدره في المتوسط خمسون ليرة تركية في الفصل الواحد.
أما آخر وسائل الإثراء من التعليم، التي ظهرت بعد تخصيص رواتب للمدرسين وزيادتها إلى 300 دولار، فتقوم على تقاضي مبلغ معلوم سلفاً من المتقدم بطلب وظيفة كمعلم في المدرسة، وانتشرت الظاهرة وصارت متداولة في أوساط المعلمين علناً، وتتراوح الصفقة بين 500 و1000 دولار يقبضها المدير من المعلم عداً ونقداً، سلفاً، مع إمكانية تأمين شهادة وقبول مضمون في المقابلة!..
ويبدو كل شيء مضموناً ويسير بسلاسة إلى منتهاه؛ حيث تهوي مسالك الفساد بكل روادها، وفي الهوة العميقة التي لا مخارج لها ولا منقذ منها، لا يهوي الفاسدون وحدهم، بل يأخذون معهم جيلاً كاملاً خرجت من أجل مستقبله ثورة عظيمة، ثورة ضحّى بها الآباء بأنفسهم من أجل حياة كريمة لمن هم أغلى عليهم من أنفسهم.. فهل سينذر مصير المستقبل للخراب، أم أن الحاضر سيصحو؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.