من المنطقيّ أن يفكّر الإنسان أنّه عندما يحين الوقت ليموت، سيكون مستلقياً على فراشٍ يطوّقه الأحبّة، وأنّه سيتسنى له الوقت ليلفظ كلماته الأخيرة، سيودّع العالم بقلب مطمئنٍ وراضٍ، أظنّ أنّ جميعنا سيفكّر بالموت، آجلاً إن لم يكن عاجلاً، فنتخيّل أنفسنا بشعر غسله الشّيب حيث يرقّ الجلد والقلب لينكمشا ولا يعود الأخير يتّسع للمزيد، إنّه قد أخذ من الدّنيا كفايته، وهو الآن مستعدّ ليغادر.
وفي الوقت الّذي يموت فيه النّاس من المجاعات والفيضانات والحروب والزلازل وكل الكوارث الّتي شاركوا في صنعها على الجانب الآخر من الكوكب، هنا.. في هذا الشّارع بالذّات، والّذي لا يختلف عن غيره من شوارع طرابلس، بدا كلّ شيء طبيعياً ومسالماً.
ورغم الضّجيج الّذي يحدثه صوت العجلات على الإسفلت كان الجميع مندمجاً في هذه المنظومة، حيث تفرّق الناس على جانبي الطّريق كلّ يشتغل بشأنه، وكان الجمع رغم فوضويته متناسقاً وعلى نفس الوتيرة، فالوقت هو الساعات الّتي تسبق الغروب.
وقد جلس الرجال على حواشي الطريق لأجل الهواء البارد الّذي يعقب اختباء الشّمس خلف الأبنية، وكما هي الحال في أغلب شوارع طرابلس فقد تعالى صوت التّلفاز الّذي يعرض مباراة لكرة القدم، واقتعد رجلان طاولة أمام الشاشة الملوّنة منتبهين، وسمع دويّ رصاص في البعيد، لكنّ أحداً لم يكترث.
ولربّما يصنع هذا تصوّراً عن الحال الّذي تشكّل في المدينة وفي شوارعها، وبدت المباراة على التلفاز مناقضة للواقع بشتّى أشكاله، لكنّ هذا لم يمنع أحداً من الاستمرار في المشاهدة، وانطلقت الأحاديث والحكايا بين الألسن تعطّر الجو، فمرّة عن سعر الخبز وأخرى عن الوظائف الّتي لم تعد تتوفّر، وألقى كل واحد برأيه يخيّل إليه أنّه يسعى.
وظنّ الجميع أن لكل مشكلة حلّا، ولكلّ أزمة انفراجًا، وما هو إلا غباء وسوء تدبير ممّن يمتلك الأمر، فتنافسوا دون وعي على طرح الإجابات والحلول حتّى بان حسن نواياهم، لأنّ الشارع لا يسكنه إلا المحطّمون والمسحوقون ممن لا يملكون من الأمر شيئاً.
وتململ الرّجل على مقعده لأن فريقه من الخسارة كان قاب قوسين أو أدنى، ثمّ شتم في سرّه صديقه الّذي يجلس بجانبه وفريقه الّذي سيأخذ فرحة هذه العشيّة منه، إنّه ليحتاج ما يبثّ في نفسه بعض السعادة، لكنّ مباراة الغد بالتّأكيد مضمونة النتائج، وما عليه إلا أن ينتظر قليلاً، ولم يكن هذا بالأمر الصعب على شخص يلتهم الأيام كما يلتهم شطيرة دون طعم.
احتجبت الشّمس وتوارت عن النّظر، فـسكبت على السماء لوناً مخملياً رقيقاً، لكن الصخب على الأرض كان على حاله، وتعالت الصيحات تجاوباً مع الهدف الّذي سجله الفريق الفائز مختلطاً بأزيز رصاص يسمع في البعيد.
لم يلتفت له أحد، لذا استمرّ التلفاز يعرض ما يعرضه، وبهذا لم يلحظ أيّ من النّاس الجسد الّذي سقط فجأة، ثم مرّت دقائق، التفت أحد الرّجلين إلى صديقه ينغزه، لكنّ الأخير كان جثّة هامدة، وأخذت منه الصّدمة كلّ مأخذ، فلم يكنّ يحسب لهذا الامر حساباً، وما ظنّ أنّ صديقه مفارقه هكذا بلا احم ولا دستور، ولم يجد كلمات في فمه، غير أن سيلاً من الخواطر اجتاح ذهنه، وغبشت الدّموع عينيه، ولم يعرف لمَ على هذا الرّجل أن يموت، وهو الّذي لم يملك في الحرب ناقة ولا جملاً؟
يدري أنه تقدير الله لكنّ القلب له أحكامه الخاصّة، واستجمع حروفاً قد استطاع بها أن ينادي الناس ينجدونه، ولو أنّه كان يدري أنّ الأوان قد فات، وأن قضاء يعلو سلطته قد حلّ.
ثم تقدّم النّاس فجأة يدفعهم الفضول قبل أيّ شيء، وصرخ أحدهم، رصاصة طايشة رصاصة طايشة، وكان من المفروض أن يدبّ الهلع في الجميع، لكنّهم تعاملوا مع الموقف كما يتعاملون مع شيء اعتادوه وألفوه حتّى نسوا أنّ الرصاصة تقتل، وفيما كانت الأجساد المنكفئة على الميت تتدافع، وقف الرّجل بعيداً، وتذكّر مباراة الغد، فأحس بتفاهة موقفه، وأشفق على نفسه قبل أن يشفق على صديقه، ثم أراد أن يبكي على مصير الإنسان الّذي ينقلب فجأة، لكنّ دموعاً لم تخرج من عينه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.