وكأن جسد الإنسان قالب صمم ليسير للأمام، وعليه أن يزود بالطاقة التي تعينه على السير في الاتجاه الوحيد الذي يجيد السير فيه بمهارة، وكأن العقل يتسع في محيط دائري حول جسد الإنسان يحميه بالمعرفة، في أبسط صوره يخبره أن نجاته في الطعام والشراب وتجنب المخاطر، وتتسع الدائرة حتى تخبره أن حماية جسده تكمن أيضاً ليس في كمية الأشياء بل في نوعيتها، فيحسن من طعامه وشرابه ونمط حياته، ثم تتسع الدائرة لتخبره أن الحماية ليست مادية فقط، بل أيضاً معنوية.
وتخبره أن بداخله شيئاً حساساً دقيقاً لا يعلم عنه أصحاب الدوائر الأقل حظاً، يسمى النفس، وأن حمايتها من حمايته، وأن الناس ليسوا جميعهم كما يظهرون، وأن من العلاقات ما يؤذي أكثر من الخنجر، ويعلمه كيف يكشف حيلَ مَن حوله من الخبثاء باكراً قبل أن يوقعوا به، ثم تتسع أكثر لتخبره أن تلك الحيل الخبيثة ليست فقط من شأن الغرباء، بل إن خيانة كبرى قد تأتي من داخله، من نفسه التي يحميها، تتقن هي الأخرى بعض الحيل التي تتسع بقدر اتساع عقله.
و كلما زادت دائرته المحيطة ربما حمته أكثر من الغرباء، ولكنها صارت في مأمن أكثر من عقله، ورغم أن اتساع العقل وتعقيده يزيد من تعقيد تلك الحيل النفسية، فإنه لا يستطيع كشفها سوى عقل مثله أو أوسع.
ولأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فعلى قدر وسعها يأتي فهمها، وعلى قدر فهمها يأتي حسابها، وقد رفع الرحيم القلم عمن لا وسع له (عن المجنون) ورفع المنان عن عباده الخطأ والنسيان.
ربما يقبل جسدك أن يأكل نفس الطعام كل يوم، فلا يعنيه سوى ما يستخلصه من كميات لأساسيات تبقيه حياً، ولكن عقلك لا يحب التكرار، يمل منه، يتوق إلى الجديد، وقد وضعت تلك الآلية الدفاعية فينا منذ ولدنا، الطفل الذي يقبل التكرار ببساطة تذهب به إلى الطبيب ليرى ما شأنه.
وربما رفضنا لتكرار الطعام هو أيضاً من شأن العقل الذي ما زال يقبع داخل الجسد، ولكن لا بأس فجسدك سيستمر بالأداء الجيد تماماً ما دمت تحرص على كميات الوقود المناسبة له مهما تململ عقلك من تكرار الطعام الذي يتعامل معه على أنه ما زال يقع تحت بند التكرار!
فتذمر العقل من التكرار هو في حد ذاته حماية لخلاياه وحفاظ على حيويتها، فهي صممت لتتوسع بكل جديد يدخل إليها، تتوسع طولياً عن طريق إمدادات الجسد، وأفقياً بـ(المعرفة المستمرة).
البسطاء الطيبون ربما يغذون ذلك التوسع العرضي بحلقات مسلسل جديدة كل يوم، أو ببرنامج طبخ يضيف إلى معلوماتهم كل يوم، أو بأحداث الحياة المختلفة كالأعراس والمناسبات أو حتى.. الغيبة والنميمة.
محظوظون هم مَن يسر لهم القدر أو يتوسعون أفقياً بالمعرفة العلمية أو القراءة أو السفر، يستطيعون أن يسيروا بجسدهم للأمام في طريق يصل بهم إلى شيء جديد ومختلف، قبيح أو حسن، ذاك شأنهم الذي بدأ يتكون منذ اختاروا بماذا تتوسع عقولهم، ولكنهم يتقدمون.
أما أحبائي الطيبون الذين أرى عادة أن فيهم جمالاً وبساطة، نعم يسير جسدهم للأمام، ولكن في نفس البقعة تقريباً وربما يدور حول نفسه أو يجد لنفسه شيئاً يدور حوله، كحل بدائي لآلية السير للأمام التي زُوِّدَ بها، وربما لا يصلون لجديد في حياتهم بسهولة، ولكن في الإسلام يسر ومتسع للجميع، فخمسة أركان وابتعاد عن كبائر معدودة، تكفي الجميع شر المصير وتؤهلهم لخيره.
ومن ذلك الكيان الإنساني يمتد خيط لأعلى يصل إلى عنان السماء، يصل ذلك الخيط بين روحه وبين الملكوت الإلهي، ذلك الخيط يبقينا مرفوعي القامة، ذوي أعين مبصرة تتمكن من النظر لأمامها بسهولة أكبر، وكلما اثّاقلنا إلى الأرض يجذبنا ليعلمنا أننا على وشك السقوط، فنختار أن ننتبه ونراجع حساباتنا لنصلح مواطن الخلل، أو نختار أن نجعل أصابعنا في آذاننا ونستغشي ثيابنا، ذاك الاتصال بينك وبين السماء يخفت كثيراً بالركود والوقوف مكانك، وكلما تحركت واصطحبت عقلك وجسدك ونفسك إلى الأمام ومضيت بهم جميعاً في وفاق، تجدد الاتصال وأنار، ونمت روحك أكثر، حتى فهمك عن الدين سيتغير، في كل لحظة تختار فيها ألا تقطع تلك الصلة.. يتجدد ذلك الخيط وتقوى أوتادك السماوية.
في كل ماكينة معطلة قطعة مفقودة، تكون هي حل الأحجية، راجع مواطن قوتك الرباعية (جسدك، عقلك، نفسك، روحك) ربما تجد موضع الخلل، وعسى أن تجده قريباً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.