منذ أعلنت روسيا نيتها عقد مؤتمر أستانة بهدف إيجاد تسوية للأزمة السورية، وهذا المؤتمر مثار جدل لا ينتهي، ولعل السبب يرجع في جزء كبير منه إلى الضبابية التي تحيط به خاصة لجهة الأطراف المشاركة والأسس التي ستعتمدها المحادثات، خاصة مع وجود أكثر من نسخة للتفاهمات الموقعة، فإذا ما أضفنا إليها الخروقات التي ارتكبها نظام الأسد والميليشيات الشيعية؛ بل وروسيا نفسها، فإن الصورة تصبح شديدة القتامة.
روسيا تعتبِر نفسها الراعي الرسمي للشأن السوري، ولهذا فإنها تحاول قدر الإمكان إبعاد الولايات المتحدة عن المؤتمر؛ علها تستطيع إنجاز تسوية تكون على مقاس تطلعاتها وآمالها الكبيرة الناجمة عن استفرادها بالشأن السوري، خاصة مع تدخلها العسكري المباشر وما حققته من نصر مزعوم في مدينة حلب، وهي بهذا تسابق الزمن، في محاولة استقطاب الفصائل السورية المصنفة معتدلة، مستفيدة من التعاون التركي اللامحدود والموافقة الإيرانية وإن على مضض. لكن، ما لا تدركه عقلية الديكتاتور الروسي بوتين هو حقيقة أن الراعي والوسيط يجب أن يكون محايداً وليس طرفاً في الصراع، وأنه كان يتوجب عليه احترام الهدنة الموقَّعة وإجبار نظام الأسد وميليشيات إيران على الالتزام، وإن على سبيل تقديم بادرة حسن نية تبرر للفصائل السورية المشارَكة وتهدئ الشارع الغاضب، لكنه لم يفعل.
عند الحديث عن اتفاق الهدنة، فإننا نتوقع توقُّف العمليات القتالية كافة، أما الخروقات فإنها تلك التي يمكن اعتبارها اشتباكات محدودة نتيجة تداخل خطوط القتال أو عدم التنسيق بين الأطراف المتقاتلة. أما ما يحصل، فلا يمكن اعتباره، بأي حال من الأحوال، خروقات؛ بل حرب حقيقية، خاصة في ظل ارتكاب الطيران والدبابات مجازر في أكثر من محافظة سورية، آخرها مجزرة دير قانون، إضافة إلى محاولات اقتحام وادي بردى التي لم تتوقف منذ توقيع اتفاق الهدنة.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثّقت، في تقرير لها نشره موقع أورينت نت بتاريخ الخامس عشر من هذا الشهر، أكثر من 318 خرقاً، 298 عبر عمليات قتالية، و20 عبر عمليات اعتقال، 277 منها على يد قوات الأسد حصل معظمها في محافظة حماة، حيث بلغ عدد الخروقات فيها منذ دخول الاتفاق حيِّز التنفيذ 105 خروقات، تلتها حلب بـ46 خرقاً، ثم إدلب بـ40. كما سجل التقرير 32 خرقاً في ريف دمشق، و30 في حمص، و19 في درعا، و3 خروقات في دمشق، وخرق واحد في كل من الحسكة ودير الزور. وسجَّل التقرير 34 خرقاً على يد القوات الروسية؛ منها 13 في حلب، و3 في حماة، و18 في إدلب، مقابل توثيق التقرير 7 خروقات ارتكبتها فصائل المعارضة المسلحة في كل من محافظتي حلب وحماة. فهل هذه هدنة يمكن لها أن تمهد لمحادثات تنتج تسوية تنهي الصراع الدائر منذ نحو 6 سنين؟!
من الخطأ تكرار محاولات ابتزاز الشعب السوري وإجباره على القبول بحلول وتسويات سياسية لا تلبي الحد الأدنى من مطالبه المتمثلة في إسقاط (منظومة) الحكم الأسدي، ولا تراعي التضحيات العظيمة التي قدمها هذا الشعب المكلوم، خاصة بعد ما ارتكبه نظام الأسد وداعموه الإقليميون والدوليون من مجازر وما أحدثوه من خراب ودمار. ومع هذا، فإن محاولات الابتزاز مستمرة، حيث تكون هجمة شرسة تتمثل بقصف روسي عنيف ومحاولات اقتحام ومصالحات، تليها محاولة جر المعارضة إلى جولة جديدة من المفاوضات، فيضعون السوريين أمام أحد أمرين: إما التسليم والقبول بما يقدَّم لكم وإما القتل.
غير المقبول، هو موقف الفصائل الموقعة على الهدنة، التي لم يتعدَّ ردها على خروقات روسيا والنظام بضعة تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنها في حقيقة الأمر ماضية فيما اتفقت عليه مع الأتراك والروس، وليست في وارد الرد على هذه الخروقات، وهو ما يضعها في موقف الضعيف المسيَّر رغماً عنه. وهنا، يحق لنا أن نتساءل عن مدى قدرة هذه الفصائل على فرض شروط الثورة أو تحقيق ما نصبو إليه.
بالعودة إلى مؤتمر أستانة، يمكننا القول إن روسيا قد حكمت على مؤتمرها بالفشل حتى قبل أن يبدأ؛ إذ من الواضح أنها تسعى لفرض تسوية عسكرية معدة مسبقاً، وليست في وارد السماح لأي من الأطراف بطرح وجهة نظره أو تقديم تصوره للحل في سوريا. ومن ثم، فإن النقاشات ستدور حول تفاصيل تطبيق الخطوط العريضة التي حددتها للنظام والمعارضة على حد سواء، وهي كذلك ليست في وارد التخلي عن منظومة الحكم الأسدي بشكلها الحالي، فجهودها ستنصب على لمّ شمل النظام والمعارضة في جبهة واحدة، مع إمكانية التخلي عن شخص بشار لاحقاً.
روسيا لبَّت طلب تركيا الرافض لمشاركة وحدات حماية الشعب الكردية، لكنها في المقابل قامت باستبعاد هيئة المفاوضات عن المشاركة في مؤتمر أستانة، وأبقت على ممثلي الفصائل المسلحة، الأمر الذي يمكن اعتباره مؤشراً هاماً على طبيعة التسوية المقترحة، والتي من المتوقع أنها ستكون تسوية عسكرية تفرز بشكل آلي تسوية سياسية؛ فما يهم روسيا هو تثبيت ما تحقق لها من إنجازات على الأرض، والانطلاق باتجاه فرض وقف إطلاق نار شامل وإن من جانب واحد هو المعارضة، التي يبدو أن قسماً كبيراً منها موافق على الخطة الروسية طوعاً، بينما رضخ قسم آخر للضغط التركي، في حين لايزال البعض متردداً كالعادة.
هيئة المفاوضات رضخت للأمر الواقع وقبلت بعملية استبعادها، فأصدرت بياناً أيدت فيه المؤتمر ووضعت نفسها تحت تصرف الوفد المفاوض، وذلك من خلال بيان هزيل شرعن قصف المناطق السورية الخاضعة لما سماه البيان مناطق تسيطر عليها "الجماعات الإرهابية"، وكرر شروط ومطالب الهيئة إبان آخر جولة من محادثات جنيف والقاضية بتطبيق الفقرات 12 و13و14 من القرار الأممي 2254 الصادر في عام 2015 والتي تعني بمجملها "الخبز مقابل التسوية"، لكنها وفي المقابل اعتبرت مؤتمر أستانة تمهيداً للجولة الجديدة من محادثات جنيف التي أعلنها المبعوث الأممي دي ميستورا والمقرر انعقادها بتاريخ الثامن من شهر فبراير/شباط من هذا العام.
إيران اعتبرت مشاركتها في أستانة نصراً، أثبت من وجهة نظرها فشل محاولات تحييدها عن المشهد السوري، وهي بهذا تبدو كمن حصل على تطمينات بالتخلي عن مطلب خروج القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية من سوريا، وهذا مؤشر خطير آخر على طبيعة التسوية التي تقترحها روسيا.
روسيا لم توجه بعدُ دعوة رسمية للولايات المتحدة الأميركية لحضور المؤتمر، لكنها وجهتها عبر سفيرها في واشنطن، سيرغي كيسيلياك، خلال مكالمة مع مستشار الأمن القومي الأميركي المقبل مايكل فلين، وهو ما أثار غضب إدارة أوباما ودفعها لجملة من الإجراءات التي أظهرت مدى انزعاجها من التجاهل الروسي، فقامت بنشر لواء مدرعات، يضم 3 آلاف و500 جندي في بولندا، وفرضت عقوبات جديدة على مؤسسات ومسؤولين في نظام الأسد، وأعادت إلى الواجهة مسألة تورط الأخوين بشار وماهر في مجزرة الكيماوي، وفجّرت فضيحة ما قيل إنه احتفاظ الرئيس الروسي بوتين بتسجيلات جنسية شاذة لترامب، إضافة إلى إعادة نبش مسألة الاختراق الروسي لأنظمة الانتخابات الإلكترونية الأميركية، وهذا بدوره يُظهر عمق الصراع الحاصل بين الرئيس المنتخب ترامب ومؤسسات الدولة، وذلك على خلفية محاولة ترامب إحداث تغييرات جذرية أشبه ما تكون بانقلاب على منظومة الحكم الأميركي.
تركيا أكدت أهمية المشاركة الأميركية ودورها في العملية السياسية، لكنها تبدو في حالة توافق تام مع الروس، خاصة في مسألة انتظار تسلّم ترامب مهام منصبه رئيساً للولايات المتحدة قبل انعقاد مؤتمر أستانة بـ3 أيام، حيث أشار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى أن الدعوات ستوجه مطلع الأسبوع المقبل، في حين ردت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية، بشأن احتمال مشاركة الولايات المتحدة، بالقول إن "شكل المفاوضات لا يزال في طور النقاش"، الأمر الذي يعني أن الدعوة الرسمية لن توجه قبل تسلم ترامب لمهامه رئيساً، مع ملاحظة أن موعد انعقاد المؤتمر نفسه قابل للتغيير، وقد لا يعقد بتاريخ الثالث والعشرين من هذا الشهر.
روسيا تبدو مرتاحة جداً وهي تحاول استثمار ما تحقق لها من نجاحات على الأرض وبمساعدة من الأتراك، الذين يرغبون في الخروج من المأزق السوري ووقف الحرب بأي ثمن، هذه الحرب التي بدأ صداها يتردد داخل الأرض التركية من خلال سلسلة العمليات والتفجيرات التي استهدفتها، وهي في سبيل الوصول لهدفها هذا تحتاج للزج بفصائل المعارضة المسلحة في الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي دخلت في مواجهة مباشرة وحقيقية معه في مدينة الباب، حيث لا تزال عملية اقتحام الباب تراوح مكانها وتستنزف الكثير من سمعة ورصيد تركيا لدى السوريين، الأمر الذي دفعها لطلب الدعم الجوي من التحالف الدولي وروسيا؛ بغية حسم معركة الباب التي جعلتها تتأخر في سباقها مع الأكراد باتجاه الرقة التي ما زالت معركتها تراوح مكانها أيضاً. لهذا، فهي في أمسّ الحاجة لتفريغ فصائل الجيش الحر وحشدها لعملية درع الفرات.
يمكننا القول إن المنطقة قد دخلت في دوامة الابتزازات والمقايضات؛ فحلب مقابل الباب ولجم وحدات الحماية الكردية، وسوريا ولبنان مقابل اليمن. أما المشاركة في الحرب على ما يسمى الإرهاب، فأصبحت تحت مظلة التحالف الدولي الذي فرض دعم العمليات في الموصل والرقة. ومن ثم، فإن فصائل المعارضة السورية لم تعد تملك من أمرها شيئاً، وباتت مجبَرة على تنفيذ ما يُطلب منها، وما نكسة حلب عنا ببعيد.
مصطلح "المعارضة السورية"، مصطلح فضفاض، يدخل في إطاره كل من قال "أنا ضد نظام الأسد" من أفراد وجماعات وهيئات ومؤسسات واتحادات وفصائل مسلحة، لم تستطع ورغم مرور 6 أعوام أن تجد صيغة وطنية تجمعها، وهو ما سمح بتمييع القضية السورية واستخدام المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري ،مطية لفرض وتنفيذ المشاريع المشبوهة وشماعة للتسويف الذي سمح لنظام الأسد بالقتل والتدمير.
صحيح أن عدد الفصائل "الكبرى"، الموافقة على حضور اجتماع أستانة، قد لا يتجاوز 14 فصيلاً، إلا أن العدد الكلي للفصائل المنخرطة في التسوية "بغثها وسمينها" يتجاوز 35 فصيلاً، حيث أعلنت هذه الفصائل موافقتها على حضور المؤتمر دون شروط، ضاربة بعرض الحائط كل ما صرحت به حول خرق نظام الأسد الهدنة والتهديد بتجميدها وعدم الذهاب لأستانة؛ على أثر المحاولات المتكررة لاقتحام وادي بردى الذي لا يزال تحت النار، ليس هذا وحسب؛ بل إن الفصائل ومعها هيئة المفاوضات قبلت بشروط استثناء مناطق سيطرة التنظيمات المصنفة "إرهابية" كـ"الدولة" و"فتح الشام" من الهدنة، الأمر الذي سيعني استمرار القتل والتدمير، ولو استثنينا تنظيم الدولة، فستبقى معضلة تعامل هذه الفصائل مع القصف الذي سيطال مناطق سيطرة فتح الشام المتداخلة في وجودها مع معظم الفصائل. وهنا، لا بد من التساؤل حول أهلية ممثلي هذه الفصائل في التفاوض على مصير الشعب السوري.
لا شك في أن مؤتمر أستانة سيشكل نقلة نوعية ونقطة مفصلية في تاريخ سوريا والمنطقة، خاصة إذا ما خرج بتسوية تُبقي على منظومة الحكم الأسدي، وتوسيعها لتضم فصائل أستانة التي سينحصر دورها في عملية قتال تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام ورافضي التسوية مع نظام الأسد، وهو ما سيؤدي حتماً إلى انشقاقات عديدة تعيد رسم خارطة الفصائل المسلحة وتحالفاتها على الأرض؛ لأن أي تسوية لا تحقق شرط إسقاط منظومة الحكم الأسدي هي تسوية فاشلة ومرفوضة.
إن معارضة مشرذَمة يعيِّنها لنا الآخرون، لم تستطع -ورغم مشاركتها في جولات المفاوضات كافة- أن تطلق سراح الأسرى والمعتقلين ولا حتى فك الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة، هي معارضة غير مؤهلة للحديث باسم الشعب السوري. ومن ثم، فإن من سلَّم حلب وغيرها لن يذهب إلى أستانة كي يعيد لنا الحقوق ويسقط النظام؛ بل سيذهب مرغَما عنه ليسلم ما تبقى من سوريا ويوقع صك الاستسلام والعودة لحضن الأسد، ومن يدري فربما يؤدون القَسَم أمام الأسد الذي قال: "إن أقصى ما يمكن تقديمه للمعارضة هو العفو عنها".
هذه التدوينة منشورة على موقع اورينت.نت ، للإطلاع على النسخة الاصلية يرجى الضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.