الطاعم الكاسي

كان الحطيئة شاعر هجاء خبيث اللسان، لم يترك شخصاً تعامل معه إلا وهجاه، هجا زوجته ووالده ووالدته وخاله وعمه، ولا أظن أنك ستتعجب كثيراً بعد ذلك لو قلت لك إنه هجا نفسه.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/24 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/24 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش

كان الحطيئة شاعر هجاء خبيث اللسان، لم يترك شخصاً تعامل معه إلا وهجاه، هجا زوجته ووالده ووالدته وخاله وعمه، ولا أظن أنك ستتعجب كثيراً بعد ذلك لو قلت لك إنه هجا نفسه.
فقال في والدته:

تَنَحِّي فَاجْلِسِي عَنِّي بَعِيداً ** أَرَاحَ اللَّهُ مِنْك الْعَالَمِينَا
أغربالا إذَا اُسْتُوْدِعَتْ سِراً ** وَكَانُونَا عَلَى المتحدثينا

وقال في والده وعمه وخاله:
لحاك الله ثم لحاك حقا ** أبا ولحاك من عم وخال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ** وبئس الشيخ أنت لدى المعالي

وقال في هجاء زوجته:
أطوّف ما أطوّفُ ثم آوي ** إلى بيتٍ قَعيدته لَكاعِ

وكان الحطيئة يتعيش من قول الشعر، فكانت الناس تعطيه اتقاء لشره، ولتتجنب بذاءة هجائه وقدحه، فكان ينزل على الأمير أو سيد القوم فيمدحه بقصيدة من شعره، الذي اشتهر أيضاً بجودته، فيعطيه هذا الأمير أو السيد أجر هذا المدح، فإن لم يعطِه ما توقعه أنصرف عنه وهجاه.

وكان الحطيئة قد نزل على سيد قوم يدعى "الزبرقان بن بدر"، واستضافه هذا الرجل وأكرمه، إلى أن ظهر للحطيئة منه ما كره، فتركه ونزل على خصوم للزبرقان، وهجاه بقصيدة منها بيت يقول فيه:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** وأقعد فأنت الطاعم الكاسي
فلما سمع الزبرقان هذا البيت، غضب غضباً شديداً، وشعر أن شرفه قد أهين، فذهب من فوره يشكو الحطيئة عند أمير المؤمنين.
أتدرون من أمير المؤمنين الذي حدثت هذه القصة في عهده، إنه "عمر الفاروق"، سمع أمير المؤمنين الأبيات بعدما سمع شكاية الزبرقان، التي قال فيها إن الحطيئة قد هجاني وشهر بي، وسأله ماذا في الأبيات لقد وصفك بالطاعم الكاسي، ولا أرى في الأبيات إلا عتاباً، فرد عليه الزبرقان قائلاً: لا والله يا أمير المؤمنين لقد هجاني، أو ما تبلغ من مروءتي إلا أن آكل وألبس.

وإزاء هذا التصميم من جانب الزبرقان، انتدب أمير المؤمنين عمر خبيران للفصل في هذه المسألة الفنية، ولم يكونا إلا الصحابي الشاعر حسان بن ثابت، والصحابي الشاعر لبيد بن ربيعة، اللذين أكدا على أن الأبيات هجاء صريح، فقال الأول: إن الحطيئة لم يهجه ولكنه سلح عليه، وقال الثاني: ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه، وأن لي حمر النعم، فأمر عمر بحبس الحطيئة في قصة طويلة.

وأكثر ما لفت نظري في هذه القصة الطريفة، هو استنكار الزبرقان لصفات لو قيلت لأي شخص من أهل زماننا لطار بها فرحاً، فيكفي أن تقول عن شخص: إن فلاناً هذا في حاله، ولا همَّ له إلا إعالة أهله، وكافي خيره شره، ولكن هذا الرجل العربي الشهم استنكف أن يكون هذا هو فقط همَّه في الحياة، فأين هو من هموم أمته، والأخطار المحيطة بها من كل جانب، من يدفعها إن صار كل همه في الحياة هو توفير الطعام والكساء؛ لذلك فإنني لا أعجب كثيراً من أن هذا الجيل هو الذي فتح العالم.

أنا لا أقلل أبداً من اهتمامك بإعالة نفسك وأهلك فهذا فرض عليك، واجتهادك في السعي عليه شيء رائع، ولكني أربأ بك أن يكون هذا هو مبلغ عزمك ونهاية همتك، يجب علينا ونحن في دوامة التكسب من أجل أكل العيش، ألا نغفل عن هموم أمتنا ولو للحظة، فلو لم تكن تستطيع التغيير، فما عليك إلا بلاغ الحق لمن تعرف، وإحسان التربية لمن تعول.

وإياك وأنت تعول أهلك، أن تضيعهم بعدم التوعية والتربية على حمل هموم الأمة، فكفى بالمرء إثماً أن يضيع مَن يعول، ولا تسمح لأي أحد أن يقعدك عن المكارم، ولا أريدك أن تفاخر فقط بأنك الطاعم الكاسي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد