لا تزال صورة الرجل الشرقي الواقف على أحد المقاهي يتناول قهوته العربية الممزوجة بأغاني السيدة أم كلثوم، والمنبعثة من صندوق الراديو خاصته، ودخان غليونه تُشكل سحبها حوله تسيطر على مخيلتي.
ولا تزال أغلب الروايات العالمية تبدأ بفكرة مقهى يجلس الجميع حوله يرتشفون تلك القهوة السوداء التي تذكرهم بآلامهم وحياتهم.
أغلب الأعمال والنقاشات والأطروحات والعلاقات الاجتماعية تتم غالباً هنا في هذه المقاهي؛ حيث يتكون مجتمع مصغّر مختصر بين كأس البن الذي لا يزال يبعث روائحه الزكية التي تحمل ذكرى موكا -ميناء المخا- ذلك الميناء الذي كان يقف الجميع على أشرعة سفنه متبادلين تجارب تجارتهم، وبين ٤٠٠٠ فنجان قهوة يتم تناولها كل ثانية على قهاوي العالم.
نسيج اجتماعي
الثقافة، الثرثرة، الحوار السياسي، والثقافة الشعبية هي أبرز مفردات الجلوس على أحد مقاهي العاصمة صنعاء.
لم يكن الأمر يحتاج سوى الجلوس على أحد كراسي شارع المطاعم، والبدء في وصف مشروبك الخاص لأحد عمال قهوة العم مدهش.
ومن ثَم البدء في ملاحظة نسيج اجتماعي متكامل لا يفرق بين ذلك الشخص الذي يحمل حقيبته الوظيفية الفاخرة وبين ذلك العامل الذي اعتلى المعول كتفه.
نسيج لا يظهر فيه بون المناطقية ولا عفونة العصبية، وكأن العم مدهش قد ضم الجميع هنا ليقول لهم إن قهوته هي الوطن.
يتشكل هنا مجتمع مصغّر ينقل لنا ماهية الوطن، حاله ومشاعره وأحوال أبنائه هنا؛ حيث تقام أغلب النقاشات الاجتماعية والسياسية والثقافية والرياضية.
لم يحتَج الأمر سوى أخذ ورقة ومن ثَم البدء في كتابة ملاحظات بسيطة أحاول فيها نقل صورة واقعية لكأس القهوة التي دفعت بالمئات إلى هنا.
هناك في أقصى الشمال يمكث دائماً الأستاذ محمد القعود، الكاتب الصحفي المعروف؛ ليطل علينا بجمهورية قعوديا العظمى – كتاب من تأليف الأستاذ محمد القعود – يناظر الجميع بعين المتفحص يرتشف قهوته، ومن ثَم يعاود كتابة حروفه التي تخمّرت في هذا المكان.
هنا بجانبي عجوز سبعيني يتفحص الوجوه يطلق تعليقاته بصوت خافت تارةً بالدعاء وتارةً بالتعجب والتساؤل، وثالثة يهمهم وحيداً.
على مقربة منّي يجلس مجموعة من الشباب الرياضيين تختلف أصواتهم وتتزاحم، كل يلقي بخطته الرياضية وطريقة هدفه العالمية التي يشابهها ببطله الذي يرتدي فانيلته.
أحدهم خلفي يُتهم بأن حزبه هو مَن يجر اليمن نحو الهاوية، بينما هو يدافع عن ذاته وحزبه بكل الحجج، ويهاجم جليسه ببراهين يراها صحيحة، لكن ما زالت أكوابهم متشابهة ومقاعدهم متقابلة.
لا يزال ذلك الشاب -الذي عرفته فيما بعد باسم صادق- يلعب بهاتفه، وأصدقاؤه يدينون تصرفه وكأنهم يستنكرون دخول التكنولوجيا في مثل مكان كهذا.
طفلتان الأولى في الثامنة والأخرى تكبرها بخمس سنوات، تتجولان وتطلبان المال، يقبل أحدهم، ويرفض آخرون.
بائع الملابس المتجول هو الآخر يمر على الجميع لعرض بضاعته الصينية التي يقسم للجميع بأنها تركية أو فرنسية، ويغادر مبتسماً بعد شراء البعض لبضاعته.
سعيد يحمل طبلته على مقربة من القهوة يبدأ في عزف مقطوعته اليومية "ألا يا جوهرة قلبي منين آجي لش، بيت أبوش معمور بياجور" – أغان شعبية – يكتفي سعيد عند الانتهاء بكأس من الشاي وسيجارة محترقة حتى المنتصف يوزع ابتسامته سريعاً ويرحل.
هنا تشاهد مجتمعاً مصغراً بكل ألوانه وأفكاره ومعتقداته تستظل جميعها تحت دخان قهوة العم مدهش.
تاريخ القهوة
عند البحث في جذور التاريخ حول تاريخ المقاهي وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه يقودنا الحديث للاستماع للبروفيسور جمال كافادار، أستاذ أول مادة التاريخ بالجامعة الأميركية بلبنان، مؤرخ القهاوي والقهوة، هكذا يلقب للجميع، يصف البروفيسور جمال كيف كان متصوفو اليمن يجتمعون مساء لتناول القهوة، والبدء في عباداتهم وصلواتهم طوال الليل، وكيف ابتدع المتصوفون قواعد النقاشات والاجتماعات التي تتخللها القهوة.
انتقلت هذه التجربة إلى تركيا في العام ٥١٥١ (١٢٠ ق.ب)، وتم تأسيس أول دار للقهوة في العالم، التي شكلت انعكاساً واضحاً لدور المتصوفين في اليمن؛ حيث روج لها بأنها المكان الأبرز للقاء رجال الدين، ومن ثم بدأت القاعدة تكسر، وتم تعميم دار القهوة على الجميع.
سمسرة وردة
الساعة السادسة صباحاً من أيام مدينة صنعاء القديمة، لا تزال الشمس تحاول النهوض بينما أبو هاشم يتغزل في زبائنه وزائريه.
يخرج أغلب سكان مدينة صنعاء إلى هنا يومياً؛ لينسجوا مع أبو هاشم قصة مكان تعود الجميع أن يبدأوا يومهم منه.
في فناء سمسرة وردة، تلك السمسرة التي تتوسط مدينة صنعاء القديمة، التقيت العشرات الذين أكدوا أن أيامهم لا تخلو من لحظات التغزل بأزقة صنعاء من خلال سمسرة وردة، ولا يروق لهم تقبيل الكؤوس إلا إذا كانت تحمل صبغة ورائحة هذا المكان الذي يتجاوز عمره الـ٢٢٠ عاماً.
تقع سمسرة وردة في الجزء الشرقي من المدينة وتشكل مع العشرات من السمسرات الأخرى مزاراً اجتماعياً واقتصادياً قائماً منذ أيام الحكم العثماني في اليمن.
يستيقظ أبو هاشم مبكراً، يتنقل بحرفية بين أوعية الشاهي المعتق والبن ذي الرائحة الغزلية التي تجذب المئات يومياً إلى هنا.
العشرات من الشباب والشيوخ يجلسون في حلقات شبه دائرية يتبادلون الحديث بسلاسة وسهولة تجعلك تتمنى الجلوس معهم جميعاً.
الحاج أحمد يجلس وحوله العديد من الشباب، يبدأ في تسطير أفكاره والحديث عن تاريخ صنعاء برجالها ومبانيها وصلابتها وحتى بألوان عصافيرها والتواء أزقتها.
يلتفت إلى أحد أبنائه طالباً منه استعجال كأس البن الممزوج بالحليب خاصته، ويعاود الحديث إلينا حول كيف أصبحت سمسرة وردة التي تتوسط المدينة مكاناً يشد الجميع رحالهم إليه، يشير لنا نحو حلقات أخرى، مبيناً أنها لا تكاد تخلو من شيخ مسن أو طفل يرتدي ملابسه الرياضية أو شاب جامعي يحمل مستقبله بين يديه، موضحاً كيف يتشكل النسيج الاجتماعي هنا.
يهمس لنا بصوت خافت: "هذا هو المكان الوحيد الذي يخلو من النساء".
يعاود استقامته ويصلح عمامته، ويبدأ في تحريك المسبحة الخاصة به، بينما اعتلت الضحكة وجوهنا.
التجول بين الحلقات والاستماع إلى أصحابها يطرح أمامك العديد من الأسئلة حول مسألة الاندماج الاجتماعي والتعايش وتجاوز عبرات الماضي؛ إجابتهم جميعاً تجدها في ابتسامة شيخ غلب لون بياض شعره السواد، وفي ضحكة الطفل وبريق أمل ذلك الشاب.
يرحل البعض، ويقبل آخرون، ويتغزل الجميع بهذا المكان الذي لا تخلو زواياه من قصة إنسان، مجتمع، وطن يحاول أن يجعل من ذلك المكان وتلك الأزقة عاشقة له.
أنشطة ثقافية
لا تكاد تخلو مقاهي العاصمة من كونها تشكل ندوة ثقافية وأدبية يومية تحتوي كل مكوناتها على الأدب الشعبي والعربي.
يلتقي الكثير هنا في تقابل شعري ممتع وردود شعرية مذهلة تماماً كتلك التي كان سوق عكاظ يحتضنها.
ملك الريشة ورسام البورتريهات الأول في اليمن الفنان شهاب المقرمي يتفحص الوجوه هنا وهناك، ويبدأ في نقل تلك الابتسامات والتجاعيد والانحناءات على أسطحه البيضاء.
الفنان عبدالرحمن طه هو الآخر وجد في مقاهي شارع المطاعم المكان الأنسب لإقامة معرض صوره الأول الذي نظّم برعاية مؤسسة سبأ للتنمية الثقافية في العاشر من فبراير/شباط من العام الماضي، المعرض الذي حمل عنوان (شاي بنكهة الدهشة).
عند مرورك بالصفحات الثقافية لأغلب الصحف المحلية والعربية يجب أن تستوقفك وتبهرك تلك العناوين والمواد الأدبية للكاتب عبدالعزيز المقالح، والأستاذ محمد القعود وعندما تزور المكان تعرف سرَّها.
يفتك القلم ببقايا الكلمات التي يجب أن تنطلق منه معبّرة عن لوحة فنية تضاهي لوحات فان كوخ، وعن دراما مسرحية تباهي أعمال شكسبير، وعن معزوفة موسيقية يبدو أنها الثامنة في سلم بيتهوفن الموسيقي، وعن قريحة شعرية فجّرها الأديب الدكتور عبدالعزيز المقالح:
يوماً تغنّى في منافيها القدر ** لا بد من صنعاء وإن طال السفر
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.