منذ أيام حضرت محاضرة للدكتور خالد حنفي، رئيس لجنة الفتوى بألمانيا، في أحد مساجد الغرب الألماني. تحدث فيها عن واقع المرأة المسلمة بألمانيا وأوروبا عموماً، وعن المشكلات والتحديات التي لم نستطع حتى الآن تجاوزها كجالية مسلمة والتي لا بد من تخطّيها لنحقق وجوداً أكثر انسجاماً مع روح الإسلام وروح المكان والزمان في آن معاً.
وبعد ساعة من الحديث عن مشاركة المرأة المسلمة في مختلف جوانب الحياة، بسط فيها محدثنا الكريم الأدلة على أن "فيلم عزل المرأة عن المجتمع" فيلم حديث معاصر لا أصل له في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن حق المرأة المسلمة في المسجد لا ينبغي أن يُهضم على الشكل الذي تعيشه كثير من مسلمات أوروبا- وقفت سيدة في آخر صفوف النساء "بالمسجد" تناقش الشيخ وتحاججه في أن صلاة المرأة ببيتها خير من صلاتها في المسجد وأن صلاتها بمخدعها خير من صلاتها في بيتها. مشهد بديع بامتياز! لماذا تأتي امرأة إلى المسجد لتحضر محاضرة عن دورها في المسجد إذا كانت تعتقد أن الأكثر ثواباً والأفضل لها ألا تأتي؟
استدعى هذا المشهد موقفاً آخر من ذاكرتي الجامعية؛ حين قرر إمام مسجد جامعتنا أن يخصّص درساً للنساء فجاء سُدّتنا، وكان مما حدثنا به في درسه الأول أن صلاتنا ببيتنا خير من صلاتنا في مسجدنا. مفارقة مضحكة لولا سماجتها! لماذا يخصّص الإمام درساً للنساء إذا كان يعتقد أفضلية عدم حضور النساء إلى المسجد في المقام الأول؟
والمتأمل في هذين الموقفين يدرك أن بيت القصيد هنا، ليس حضور المرأة إلى المسجد ومشاركتها فيما يجري فيه، فالسيدة والإمام يؤمنان -فيما يبدو- بـ"مشروعية" مشاركة المرأة في المسجد بطريقة ما. ولكن لبّ الخلاف هو طبيعة هذه المشاركة. يصطف المختلفون في هذه المسألة على ضفتين تحددهما إجابتا هذين السؤالين: هل مشاركة المرأة في المسجد أصل بالإسلام أم استثناء لضرورة أو حاجة على الأقل؟ وهل هذه المشاركة حق قرره الله للمرأة أم مَكْرُمة موهوبة من سلطة ذكورية ما؟
إن الإجابة عن هذين السؤالين ذات تبعات، والسيدة والإمام في الموقفين السابقين يشاركان -بقصد أو من غير قصد- في تأكيد أن مشاركة المرأة في المسجد إنما هي استثناء ومكرمة، يمكن في أي وقت إلغاؤها أو الاستغناء عنها.
أما الخيار الآخر، فهو خيار مُكلِف، فإذا قررنا أن مشاركة المرأة في المسجد أصل في الإسلام وحق إلهي، فهذا يعني أن على المرأة أن تضطلع بواجبها في إعمار المساجد جنباً إلى جنب مع الرجل. فلا يكون حضورها للمسجد نشاطاً ترويحياً تفعله في وقت فراغ قد لا يأتي إلا بالأشهر.
ومعنى هذا أيضاً، أن على المساجد وكذلك المؤسسات الإسلامية أن تحترم مشاركة المرأة وتفسح لها مجالاً فعالاً للعمل الدعوي والإصلاحي، فلا يكون حضورها "ديكورياً" كما سمّاه الدكتور خالد حنفي؛ بل تكون لها سلطة وقرار وموارد للتنفيذ تماماً كما للرجال.
ومعنى هذا، ألا يكون حلّ أي مشكلة في المسجد هو إلغاء حضور النساء: المسجد ضيق إذن نلغي مكان النساء، الأطفال يشوشون على المصلين إذن نرسلهم إلى قسم النساء، وإذا استمر الإزعاج فلا داعي لحضور النساء. ومعنى هذا، أن تتوزع الواجبات في البيت بحيث لا تُحرم المرأة من صلاة الجماعة دوماً بسبب أعمال منزلية قد لا تكون أصلاً من واجباتها شرعاً.
بعبارة أبسط: إن الاعتراف بحق المرأة في المشاركة بالمسجد يعني ألا يصرخ رجل من حرم الرجال في منتصف الصلاة: "سكتوا هالأولاد يا نسوان!"، آتياً بالحل العبقري الذي لم يخطر على بال واحدة من النساء المستمتعات بشغب أطفالهن المترنّمات بأصوات بكائهن. ولا يعلو صوت عضو في مجلس إدارة مؤسسة إسلامية على صوت زميلة سيدة ليفرض رأيه عليها بلهجة تُخفي أو تقول صراحة عبارة "ما بكفي خليناكون تشاركوا؟!". ومعناه ألا يستهجن زوجٌ أن يتناوب مع زوجته في أداء صلاة التراويح بالمسجد مثلاً لوجود التزامات أُسريّة أو منزلية لا بد لها ممن يقوم بها.
هذا ليس شغباً نسوياً يا سادة، هذه حاجة حقيقية لروح المرأة ودينها. قد تُحرم المرأة هذه النفحات سنوات خلال إنجابها وانشغالها بالأطفال، خاصة في بلاد المغترب حيث لا حاضن إلا الأم أو الأب.
وأكثر من هذا وأوسع، أن اعترافنا بحق المرأة في المشاركة بالمسجد كما قرّره وطبّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أن للمرأة أن تشارك في كل ما كان المسجد يمثّله في عهد رسول الله. ألم يكن المسجد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مكاناً للعبادة والاعتكاف والعلم والشورى والاحتفال والقضاء وتجييش الجيوش، وغير ذلك كثير؟ ألم تكن النساء مشاركات في كل هذه الفعاليات؟ فلماذا إذن -وقد أخذنا أكثر هذه الفعاليات خارج المسجد- نطيل النقاش فيما إذا كان للمرأة أن تدخل هذه الميادين إذا وجدت عندها الوسع والرغبة؟
بكى في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضيع فعجّل عليه -صلوات ربي وسلامه- الصلاة لأجله وما وعظ أمّه بأن تلزم دارها حتى لا تشوش على غيرها. وفتح شابٌّ ذراعيه في الصلاة لينظر إلى النساء من خلفه فما أقفل النبي أبواب البيوت على النساء خوف الفتنة. وأطال شابٌّ النظر الى النساء في الحج حتى حال النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبينهن وحوّل وجهه عنهن ولم يصرخ في وجوههن ليسرعن أو يبتعدن أو حتى يعتزلن المسجد. وكانت امرأة لعمر بن الخطاب تحضر الجماعة حتى في صلاة الفجر، وكان غيوراً لا يعجبه ذلك، ولكنّه لجم غيرته وكبح هواه، فلم ينهها ولم يمنعها؛ بل منعه هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".
ليست هذه دروساً في الرحمة والحكمة فقط؛ بل هي تقرير أن مشكلة أمٍّ تريد أن تؤدي صلاة الجماعة هي مشكلة الجماعة كلها، وأن فتنة تنتج من وجود النساء والرجال معاً في مكان وزمان لا تُحل بإقصاء النساء؛ بل بالتقوى وخشية الرقيب الأعلى، وأن المرأة في المسجد صاحبة البيت لا ضيفة ثقيلة. وإذا كانت مشاركة المرأة في المسجد وما وراءه حق حفظه لها الله وقرره سيد الخلق، فأي رجل أو امرأة من ولد آدم يحق له أن يسلبها إياه؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.