"1"
منذ بضعة أيام طالعتني صورة على موقع الفيسبوك، يظهر فيها طالب مُلقى على أرضية فصله تحت قدمَي مُدَرِّسة، مصحوبة بتعليق يتهم المدرِّسة بإساءة معاملة الطالب وتعنيفه جسدياً ونفسياً، وامتهان كرامته بهذه الطريقة القذرة، فأثارت عاصفة من الجدل على السوشيال ميديا لأيام، بسبب تبرير أحد النشطاء النسويين لتصرُّف المُدرِّسة على أنه نتاج لما قد يفعله بها طلاب ذكور مراهقون صَوَّر لهم خط الشارب الرفيع حديث الظهور في وجوههم أنهم بلغوا من الكِبَر ما يُمكّنهم من الاعتداء على أي أنثى على سبيل التَنَدُر والـ"روّشنة"، وأنه من الواجب على الجميع قبل اتهام المعلمة بأي شيء أن ينَّقبوا خلف الحدث؛ ليعرفوا ما الذي فعله لها الطالب فدفعها في الأساس للقيام بهذا التعنيف!
وبالرغم من كمّ العنصرية المنبثق من هذا التبرير فإنه وجد مؤيديه، ولاقى صدى بين آخرين ممن يلقبون أنفسهم بالنسويين، حتى بعد اتضاح الأمر لاحقاً، ظل التبرير قائماً بين الكثير من المدافعين عنه! وقد حاولت إيجاد تفسير مقنع لتأييد ممارسة العنف على طُلاب من قِبَل معلمة تربوية من المفترض أنها على دراية بآليات التعامُل مع المُراهقين ممن أخذتهم جلالة التستوستيرون بعض الشيء، أو تفسير تأييد من يؤمنون بمبادئ الأيديولوجيا النسوية لممارسة العنف على أساس النوع، فإذا ما كان العنف مُوَجَهاً لامرأة قامت الدنيا ولم تقعد، وإذا كان مُوجهاً لرجل خُلِقت له المعاذير، وتم تبريرها من منطلقات قيمية بائسة.
والحقيقة أنها لم تكن المرة الأولى التي يخرج فيها علينا أحد النشطاء النسويين بتحليل عبقري وفذّ وفريد من نوعه لحادثة اجتماعية أو ثقافية ما مثل هذا، لكنها لربما تكون الأسوأ والأكثر جدلاً حتى الآن، وأقول حتى الآن؛ لأنني على ثقة بأن الأمر لن يتوقف عند الحد الذي سأذكره في هذا المقال.
"2"
لطالما رأيت الكثير من المنشورات عل الفيسبوك لفتيات يفضحن -من وجهة نظرهن- المتحرشين الإلكترونيين، فإذا أرسل لإحداهن أحدهم في رسالة خاصة "هل بإمكاني التعرف عليكِ؟"، ترى هالة من الضوء على شاشة حاسوبها، وتستشعر الإلهام بأن الله قد أرسلها لهذا الشخص السيئ الدنيء ذي النوايا القذرة، لتلقنه درساً لن ينساه، ولتردعه عن الاقتراب لبنات حواء نهائياً، ولترجعه عن محاولة التعرُّف على أي فتاة مستقبلاً، فتنشر نسخة من محادثته لها على حسابها الشخصي في منشور طويل مصحوب بنعوت سيئة وهاشتاغ "افضح متحرش"!
وفي واقع الأمر أنا أيضاً لم أفهم من تفعل هذا تماماً، فأين التحرش في أن يطلب أحدهم أن يتعرف إليها؟ وإذا افترضنا أن العالم الافتراضي ممتلئ بالحمقى والحثالة والمدعين، مما يجعلنا جميعاً متخوفين وحذرين في التعامل مع الآخرين، أليس بكافٍ أن تحظره إلكترونياً وتتركه يمضي في حال سبيله بدون تشهير إلكتروني أو تحطيم معنوي أو وصم مجتمعي بأنه "متحرش"؟! لكن لا وألف لا، سنفضح المتحرشين جميعاً حتى لو لم يكونوا كذلك، سنجعلهم يندمون على كل لحظة سوَّلت لهم فيها أنفسهم أن يُقدِموا على مثل هذا التصرف الشنيع!
"3"
ليست هذه الوقائع السابقة فريدة من نوعها، بل إنها تندرج تحت قائمة طويلة من العنف النفسي غير المُبَرَّر تجاه الرجل في مصر، ذلك العنف الذي تملؤه رائحة الأدرنالين، وتستعر فيها الرغبة في الانتقام وتجعله دائماً في قفص الاتهام، فكل رجل ذئب بشري حتى يثبت العكس، وبذلك من حقنا أن نمارس عليه كل التعنيف الممكن حتى يثبت أنه إنسان آدمي، مع عدم الأخذ في الاعتبار بأن العنف مُولِد للعنف، وأن الرجل المُعنَّف لن يتعامل مع الأمر من واقع مخزون المواقف والتجارب السيئة التي عانتها المرأة المُعنّفة قبل إصدار أحكامها القيمية بشكل عام على الرجل، ولن يأخذ تشوهها النفسي في الاعتبار؛ لأنه مشوه بقدر تشويهها في الأساس، وواقع تحت ضغط نفسي ومعنوي كبير، وإن لم يكن يماثل ما تتعرض له هي، ما بين إثبات رجولته في الأُطر والتنميطات التي يضعها له المجتمع وما بين وصمه الدائم بأنه مُعنِّف وليس ضحية أو مُعنَّفاً! وبالتالي سينظر إلى النسويات على أنهن خليفات هتلر الجدد، وسيفقد أي تعاطف تجاه القضية، بل وقد يتطور به الأمر إلى تبرير العنف ضد المرأة مثلما يتم تبريره ضده، من باب إذاقتنا نفس الكأس الذكورية اللعينة.
والأمر بهذا الشكل لم يعُد بحثاً عن حقوق المرأة في مجتمع سلبها حتى حق التنفس بدون استئذان أحدهم، وإنما تحول إلى معركة جندرية يحاول كلا الطرفين فيها إثبات قوته على الآخر، فتشوهت النسوية إلى الحد الذي جعلها تستند إلى التحيز، بل وتبرر العنف على أساس "الجندر" الذي قامت من أجل دحضه بالدرجة الأولى.
وبالرغم من كل هذا أنا لا أنفي عن نفسى وجود هذه النزعة العنيفة التي جاهدت للتخلص منها، لا أنفي البرانويا المُبَرَّرة المحدقة بتصرفات أغلب الفتيات المصريات، ولا التخوف الدائم من الغير، لا أنفي اتباعنا لأساليب دفاعية عنيفة كنوع من الحماية مقدماً، لكني أعترف أنها أشياء خاطئة ناتجة عن تشوهاتنا النفسية جراء ما عانيناه كنساء في مجتمع مثل الذي نحيا فيه، وأعترف أنه لا يجب أن أُدخِلها إلى المبادئ النسوية ولا الأيديولوجيات الجنسانية بشكل عام، وأنه لا يجب تبرير التعنيف المُمَارَس ضد رجل على أساسها، سواء في موقف واضح فيه أنه ضحية وضوح الشمس، أو في موقف لا يحتمل التأويل أو القيل والقال، أو في موقف يمكننا ببساطة تجنبه فيه ما لم يلحقنا ضرر حقيقي ومباشر، فقط بدون تشهير أو عنف، وأنه لا يجب إطلاق الأحكام القيمية بهذا الشكل التعميمي المحموم.
لقد شوهتنا مصر جميعاً، بل وأحكمت قبضة تشوهاتها الاجتماعية علينا إلى الحد الذي ضاعت معه الملامح الأصلية لكل شيء؛ لتتحول النسوية فيها من أيديولوجيا قائمة للمساواة بين الجنسين إلى أيديولوجيا أصولية بغيضة تعمل على إقصاء طرف لصالح الآخر، فضلاً عن التحيزات والمزايدات بين فِرَق النسويين أنفسهم التي تجعلهم يصيحون ببعضهم البعض "نِسويَّتي أكثر من نِسويَّتك"!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.