أزمة مصر الحقيقية

في مصر ألف سبب وسبب لحالة السقوط الحر المتسارع الذي تشهده البلاد، لن أخوض في أي منها، فالجميع يعلمها، ولكنني سأتحدث هنا فقط عن السبب الرئيسي الذي أدى إلى هذه الحالة المزرية التي قاربت معها مصر على الانهيار.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/18 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/18 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش

في مصر ألف سبب وسبب لحالة السقوط الحر المتسارع الذي تشهده البلاد، لن أخوض في أي منها، فالجميع يعلمها، ولكنني سأتحدث هنا فقط عن السبب الرئيسي الذي أدى إلى هذه الحالة المزرية التي قاربت معها مصر على الانهيار.

وقبل أن نتحدث عن "السبب" الحقيقي لما تعيشه مصر من أزمات الآن، وجب أولاً أن نضع تساؤلاً هاماً هو: متى تنهض الأمم؟!

وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نمر عبر بوابة التاريخ، وأن نبحث في الأسباب التي تجعل الأمم تنهض وتتغلب على هزائمها وانتكاساتها؟!

الحالة الأولى:
وجود مشروع كبير يتجمع الناس حوله، يتفانون ويضحون في سبيله، والحديث هنا عن المشروع لا يعني مشروعاً اقتصادياً كحفر قناة السويس مثلاً، وإنما أتحدث عن مشاريع تضع تصوراً لدولة حديثة بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية.. إلخ.

فالمطلوب هنا وجود مشروع يقنع الشعب ويكون قابلاً للتطبيق؛ ليفتح الباب أمام نهضة كبرى، ولدينا أمثلة عديدة، مثل المشروع الإسلامي الذي انطلق برسالة متكاملة نجحت في إنشاء إمبراطورية ضخمة استمرت لمئات السنين، أو الثورة الفرنسية التي امتدت لأوروبا كلها.

ولا يشترط وجود مشروع أن تكون نهايته النجاح، فالمشروع النازي الذي نجح هتلر في النهوض من خلاله بألمانيا، عقب خسارتها الحرب العالمية الأولى، حوَّلها من دولة محطمة إلى دولة عظمى التف الشعب حولها، لكن مشروعه أدى إلى دمارها بالكامل مرة أخرى في نهاية الأمر وبصورة أسوأ أيضاً.

أما الحالة الثانية: التي قد تؤدي لتلاحم الشعب فهي وجود خطر محدق يهدد الوطن، يستفيق الناس معه دفعة واحدة ويتجمعون لإزالة هذا الخطر وإبعاده من خلال الاجتهاد والتضحية والتفاني في العمل، مثلما فعل صلاح الدين وقطز أمام خطر الصليبيين والتتار.

ويعتبر تعرض الدول لانتكاسات كبرى – الحالة الثالثة – خياراً إجبارياً مطروحاً، وهنا تكون الدولة أمام أحد خيارين؛ إما أن تتفكك بالكامل، ويتم بناؤها من جديد، مثلما حدث مع اليابان وألمانيا عقب الحرب العالمية، وربما يفشل بناؤها مثلما حدث في العراق عقب الغزو الأميركي، أو أن ينجح شخص أو مجموعة في تجديد الدماء قبل لحظات من الانهيار التام وخلق نموذج جديد في اللحظة الأخيرة، مثلما فعل أتاتورك في تركيا، وكذلك ما حدث في روسيا عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، ولكن هذا لا يحدث دون وجود مشروع جديد قابل للتنفيذ.

وبالنظر للحالة المصرية، سنحتاج للعودة كثيراً إلى الوراء، فعلى مدار مئات السنين، كانت مصر تعيش وتتعايش مع المشروع الإسلامي، وكانت مصر تلعب دوراً بارزاً ومحورياً في هذا المشروع المتوارث منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى نهاية الدولة العثمانية، ومع تولي محمد علي الحكم باعتباره والياً على مصر، كان هناك مشروع جديد التف حوله المصريون، وهو إقامة دولة حديثة ترث إرث الدولة العثمانية التي أصابها الوهن، فنجح محمد علي في جمع المصريين وراء هذا المشروع، وأن يكون إمبراطورية كبرى كادت تسقط الدولة العثمانية نفسها، لكن تدخل القوى الكبرى تسبب في إجهاض هذا المشروع في مهده، وبدأت مصر تنفصل يوماً بعد يوم عن الخلافة العثمانية، وتعيش بلا مشروع حقيقي لسنوات طويلة، تعرضت خلالها لعدد من النكسات انتهت بالاحتلال الإنكليزي لها عام 1882.

خلال سنوات الاحتلال كان الشعب المصري يسير في رحلة البحث عن مشروع جديد، خاصة مع إعلان أتاتورك إنهاء الخلافة الإسلامية عام 1924، وبينما كان المصريون يحلمون بطرد الإنكليز من البلاد كان حلم القومية العربية يتعالى تدريجياً، حتى بلغ أوجه بوصول جمال عبد الناصر للسلطة وسيطرته عليها بالكامل عام 1954.

هنا عاد لمصر مفهوم "المشروع" الذي التف الشعب من حوله، وتمثل هذه المرة في حلم القومية العربية، ورغم أن هذا المشروع انطلق بسرعة البرق نحو النجاح في بدايته مع تحرر عدد من البلدان العربية من الاستعمار، وسيطرة أنظمة قومية عليها، فإن هذا المشروع تعرض لانتكاسات قوية وصادمة بخسارة حرب اليمن 1962 – 1967 وانهيار الوحدة مع سوريا 1958 -1961 ونكسة العرب أمام إسرائيل عام 1967، إلى جانب سلسلة من النزاعات والصراعات بين العرب أنفسهم جعلت من حلم الوحدة العربية أمراً مستحيلاً.

وبعد رحيل ناصر ومجيء السادات، حاول الأخير أن يخلق نموذجاً مختلفاً، نموذجاً يضع مصر في سلم الأولويات ويتخلص من المشروع القومي بكل ما يحمله من أعباء تفوق قدرات مصر وقتها.

التف المصريون حول مشروع تحرير الأرض، وإن لم يزل حلم العروبة يراودهم، خاصة أن النظام لم يكن يستطيع أن يتحمل كلفة مواجهة الشعب بحقيقة فشل المشروع القومي، كما أنه لا يستطيع التخلي عنه دون أن يستفيد من دعم الأشقاء العرب له في تحرير الأرض؛ ليأتي نصر أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 ويكون توقيع اتفاقية كامب ديفيد بمثابة المسمار الأخير في نعش المشروع القومي بالنسبة للمصريين، وربما العرب أيضاً؛ لتبدأ مصر في تنفيذ مشروع السادات الجديد الذي يهتم بمصر أولاً وأخيراً، لكن الأقدار لم تمهله كثيراً فكان اغتياله في 6 من أكتوبر عام 1981.

ورغم صعوبة الحكم على مدى نجاح مشروع السادات أو فشله، فإن الحقيقة تقول إن مبارك ورث المشروع بكل نقاط قوته وضعفه، لكن النقطة الأضعف تمثلت في مبارك، الذي لم يكن مؤهلاً وقتها لتولي المسؤولية!

وخلال سنوات حكمه الأولى، لم يكن مبارك يملك مشروعاً حقيقياً، لكنه نجح في توحيد المصريين من خلال خطرين يحدقان بالشعب المصري هما:

– الخطر الخارجي المتمثل في العدو الإسرائيلي المرابط على الحدود الشرقية، الذي بدأ في الأفول تدريجياً حتى غاب بصورة كبيرة عام 1989 مع تحليق العَلم المصري فوق طابا، وتوقيع اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام 1993.

– الأمر الثاني كان متمثلاً في خطر الجماعات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، الذي انقضى مع نبذهم للعنف في نهاية التسعينيات.

ومع انقضاء الخطرين بشكل كبير بنهاية التسعينات، استقبل المصريون مطلع الألفية الجديدة دون مشروع يجمعهم، أو خطر يتهددهم، أو انتكاسة تفيقهم، مع فساد يأكل عظام دولتهم، واستمرت مصر في السقوط الحر، وهو ما انتهى بثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011.

وبالرغم من عظمة الثورة المصرية، فإنها جاءت بهدف هدم نظام فاسد، لكن المصريين عاشوا هذه اللحظة الحاسمة أيضاً دون أن يمتلكوا مشروعاً يواجهون به مصيرهم، ولم يكن أمامهم سوى المشروع الإسلامي الجديد، متمثلاً في جماعة الإخوان القوة الوحيدة التي تمتلك مشروعاً على الأرض، لكن هذا المشروع كان هو الآخر غير جاهز لتولي المسؤولية، فمشروع إسلامي في مصر يعني الكثير من الصدامات في الداخل والخارج، كما أن المشروع لم يطرح حلولاً لكثير من القضايا العالقة منذ سنوات، وهو ما انتهى بفشله وعودة النظام العسكري للصورة مرة أخرى، متمثلاً في الرئيس السيسي.

إلا أن النظام الجديد الذي ما زال في طور البناء، ولم يتخلص من سلبيات النظام القديم، يقف حائراً هو الآخر في ظل عدم امتلاكه لأي مشروع يسير المصريون على نهجه، فالمشروع العربي الذي فشل في أوج قوته من المستبعد نجاحه في ظل الانقسامات والثورات والكوارث التي تشهدها المنطقة، كما أن المشروع الإسلامي بات خطراً يهدد الدولة؛ لأنه يمثل نظام مرسي الذي انقلب عليه، إضافة لما تعيشه مصر من حالة يرثى لها تجعلها غير قادرة على النهوض، فكيف إن طلب منها أن تنهض بأمة بأكملها! أما البحث عن مشروع قاري "إفريقي" فهو يحتاج لدولة قوية تنتزع الأفارقة من كبوتهم، وتكون مقنعة لهم، وهو ما لا يتوافر في مصر حالياً.

وطالما غاب المشروع، كان لا بد من البحث عن الخيار الثاني وهو عدو يجمع المصريين خلف السلطة، لكن البحث عن عدو بات غاية في الصعوبة أيضاً، فالعدو الإسرائيلي "التقليدي" ربما تكلف معاداة مصر له أكثر مما تحتمل، وبما أن البلاد في وضع متهالك، فيجب أن يكون الخطر متناسباً مع حجم قوتها، فتم خلق عداوات وهمية مع حركة حماس، إضافة إلى تضخيم الموضوع ليشمل الدول المعارضة للانقلاب كقطر وتركيا، ولا مانع من إرهاب المواطنين من تنظيم داعش في سيناء، ومحاولة إقناع الشعب بأن هذا يقع ضمن مخطط عالمي لتقسيم البلاد؛ ليخرج الأمر في صورة كارتونية بمزج التيارات الإسلامية بمختلف توجهاتها مع التيارات الليبرالية والمعارضة الأخرى كـ6 أبريل والاشتراكيين الثوريين وروابط الألتراس وغيرها، وهو الخليط الذي ظهر بصورة عشوائية لم يقنع فئات كثيرة من المجتمع، وتم وصفه باسم "قوى الشر".

كما أن صناعة هذه العداوات وضع السلطة في مأزق حقيقي، فالصراع مع كيانات أصغر منك لا يحقق الالتفاف الشعبي المطلوب، فلا يتصور أحد أن الشعب سيتفانى في التضحية بلقمة عيشه لدرء خطر حماس التي لا تكاد تتنفس داخل قطاع غزة، أو خوفـاً من استيلاء دولة بحجم قطر على الحكم في مصر مثلاً، مع كامل الاحترام لهما! إن النهوض بالدولة من خلال صناعة العدو يتطلب عدواً مقنعاً قادراً على تهديد أمن الدولة، أما تركيا فتخشى مصر الاصطدام بها وعادة ما يكون الصدام كرد فعل ليس إلا!

ومع كل ذلك لم تقم مصر بأي إجراء حقيقي تجاه أي من هؤلاء الأعداء المفترضين، وانخرطت في قمع المعارضة المتصاعدة في الداخل، التي تضم أطيافاً متعددة ومتزايدة جلها من الشباب، وهو ما أفقدها الهدف الأساسي وهو الاصطفاف الوطني، وبات تسديد الضربات لخصوم النظام أشبه ما يكون بقطع اليد اليمنى بواسطة اليد اليسرى لصناعة انتصار وهمي، وهو ما أضاع الهدف الأساسي، وهو الاصطفاف الوطني!

وحالياً، وبعد أن جمعنا كل هذه الأوراق التي بعثرها النظام في وجوهنا، نلاحظ أن النظام قد فشل في توفير الاحتمال الأول وهو "المشروع"، وعجز أيضاً عن إيجاد الاحتمال الثاني "العدو"، وبات الاحتمال الوحيد المتبقي للأسف هو الانتكاسة والانهيار، إما أن يظهر خلالها شخصية قيادية تمتلك مشروعاً حقيقياً تطيح بجميع الأصنام القديمة، وتبدأ مرحلة بناء حديثة، أو أن تتفكك الدولة بأكملها وتدخل في نفق مظلم لا يعلم نهايته سوى الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد