ميّتون لكن يتنفسون.. مخاوف من انفجارٍ قادم في غزة المحصورة بين مصر وإسرائيل.. فماذا عن دحلان وراعيته الإمارات؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/12 الساعة 12:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/12 الساعة 12:11 بتوقيت غرينتش

كان الطابور القابع في غزة أمام ماكينة السحب الآلي يوم تسلُّم الراتب مكتظاً بالعشرات من الموظفين الحكوميين والمتقاعدين، في انتظار الحصول على ما أمكنهم التحصل عليه من مال.

وقف محمد أبو شعبان، (45 عاماً)، الذي أُجبِر على التقاعد قبل شهرين، 6 ساعات من أجل سحب شيك شهري قدره 285 دولاراً، وهو انخفاض حاد عن راتبه الأصلي الذي كان يبلغ 1320 دولاراً في أثناء عمله ضمن الحرس الرئاسي للسلطة الفلسطينية.

وقال أبو شعبان وعيناه تدمعان، لصيحفة "نيويورك تايمز" الأميركية: "أصبحت الحياة مختلفة تماماً"؛ إذ توقف عن دفع الرسوم الدراسية لكُلية ابنه، وبدأ يشتري لزوجته الخضراوات فقط دون اللحوم لإطعام أطفالهما الستة.

كان الأجر الذي حصل عليه للتو كافياً تقريباً لتسديد فواتير بقالة الشهر الماضي فقط، وأضاف أبو شعبان: "لن يتبقى لديَّ أي مال في غضون 5 أيام على الأكثر".

كانت المعاناة اليومية المستمرة في أنحاء غزة المكتظة بالسكان، والتي تضم نحو مليوني فلسطيني، والمحصورة بين مصر وإسرائيل، قد بدأت تتكشَّف أمام أعين الناس.

توتُّر الفصائل الفلسطينية


وترى الصحيفة الأميركية أن قلب الأزمة (والذي يعد سببها الأكثر إلحاحاً) ضغطٌ مالي ساحق، نتيجة لتوتر الوضع بين حماس، الحركة الإسلامية المسلحة التي تحكم غزة، وحركة فتح، الحركة العلمانية الراسخة بالضفة الغربية؛ إذ تتحكم حركة فتح في السلطة الفلسطينية، لكنَّ حماس طردتها من غزة في عام 2007.

في محلات البقالة، يزاحم المتسولون المتسوقين من الطبقة المتوسطة، الذين يطلبون بخجلٍ وضع تكلفة المشتريات على دفتر مشترياتهم والدفع لاحقاً.

وقالت زكية أبو عجوة، (57 عاماً)، التي تطبخ الآن الخضر، المستخدَمة عادةً في تعذية الحمير؛ لإطعام أحفادها الصغار الثلاثة: "نحن ميتون، لكنَّنا نتنفس".

تمتلئ السجون بأصحاب المحلات المقبوض عليهم بسبب الديون غير المسددة؛ وأغلب ما يشغل ذهن المارة في الشوارع هو السطو المحتمل على المنازل، فيما يواجه الفتيان الذين يتغيبون عن المدرسة لبيع النعناع الطازج، أو مسح الزجاج الأمامي للسيارات، منافسةً وحشية. أمَّا في الأسواق المفتوحة، فتبقى معظم الرفوف ممتلئة، ويشغل الباعة أنفسهم بقراءة القرآن.

يقول الباعة إنَّه لا يوجد مشترون، ولا يوجد مال.

ويحذر مسؤولو الأمم المتحدة من أنَّ غزة تقترب من الانهيار التام، مع تقلص الإمدادات الطبية، وإغلاق العيادات، وانقطاع التيار الكهربائي 12 ساعة متواصلة بما يهدد المستشفيات. والمياه غير صالحة للشرب، ويتسبَّب الصرف الصحي الخام في تلويث الشواطئ ومناطق الصيد، فيما يستعد المسؤولون الإسرائيليون والعاملون بمجال المساعدات لتفشي وباء الكوليرا فى أي يوم.

تحاصر إسرائيل غزة لأكثر من عقد من الزمان الآن، وتفرض قيوداً شديدة على تدفُّق البضائع إلى داخل القطاع والناس إلى خارجه على أمل احتواء حماس، وربما أيضاً للضغط على سكان غزة بغرض إطاحة الحركة في نهاية المطاف من السلطة.

لسنوات، تهربت حماس من الحصار الإسرائيلي وحققت ربحاً بفرض ضرائب على السلع المُهرَّبة عبر الأنفاق من سيناء. لكنَّ الرئيس عبد الفتاح السيسي بمصر، بعد توليه السلطة في عام 2013، ضيَّق الخناق على حماس -وهي حركة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، التي يعتبرها السيسي تهديداً- بإغلاق المعبر الحدودي الرئيسي في رفح مدة طويلة. واستخدمت مصر، التي لا مصلحة لها في أن تصبح مسؤولةً بحكم الأمر الواقع عن إدارة غزة، هذا الضغط لإجبار حماس على إغلاق أنفاق سيناء.

وترى الصحيفة الأميركية أنه لا يسع حماس الآن الاعتماد سوى على مساعدات شحيحة من العالم العربي، فضلاً عن غير العرب. وتغلق إسرائيل، في مشروعٍ لتشييد حاجز تحت الأرض بتكلفة تقارب مليار دولار، حدودها بصورة مطردة أمام الأنفاق التي تُشن منها الهجمات على إسرائيل، والتي قضى مسلحو غزة سنواتٍ في حفرها.

يعكس مشروع النفق المتداعي، بطريقٍة ما، الموقف الذي وجدت حماس نفسها فيه دون مخرج.

بعْث بعض الآمال ثم إحباطها من جديد


في العام الماضي، شدَّد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الخناق على حماس بتقليص إمدادات الوقود لمحطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، وامتنع عن الدفع لإسرائيل لنقل الكهرباء؛ ما أدى إلى خفض رواتب الآلاف من العمال الذين ظلوا مدرَجين في كشوف المرتبات، مع أنَّهم لم يعد لديهم وظائف يؤدونها بعد تولي "حماس" السلطة على أي حال. وقد أجبرت تلك التدابير حماس على إجراء محادثات المصالحة التي بعثت آمالاً جديدة، ووصلت إلى ذروتها في اتفاق أكتوبر/تشرين الأول بالقاهرة.

وقد أبدت حماس، التي كانت حريصة على التخلص من أعباء الحكم -على الرغم من عدم استعدادها لنزع سلاح جناحها العسكري- مرونةً في المحادثات، وسرعان ما تخلت عن السيطرة على المعابر الحدودية، مثل معبرها مع إسرائيل في كرم أبو سالم، وجباية الضرائب التي كانت تمدها بنحو 20 مليون دولار شهرياً هناك.

لكنَّ تتابع سلسلة من المواعيد النهائية التي فوتتها لتسليم الحكم إلى السلطة الفلسطينية، وعزل مدير المخابرات المصرية الشهر الماضي (يناير/كانون الثاني 2018)، والذي توسط في محادثات المصالحة، حطَّمت الآمال وتركت الفصيلين يتشاجران، والمصالحة بينهم تنهار شيئاً فشيئاً.

ترفض "حماس" الآن التخلي عن تحصيل الضرائب داخل غزة حتى تبدأ السلطة الفلسطينية دفع رواتب الموظفين العموميين من جديد، لكنَّ السلطة ترفض فعل ذلك حتى تُسلِّم حركة "حماس" تدفق الضرائب الداخلية لها.

يريدون استسلام "حماس" الكامل


وقال نيثان ثرول، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية والذي يراقب غزة من كثب: "يعتقد أكثر الأشخاص تشدداً في السلطة الفلسطينية أنَّهم بحاجة إلى استسلام (حماس) الكامل، والذي يشمل تفكيك جناحها العسكري. ويرى الغالبية العظمى من الفلسطينيين أنَّ ذلك غير واقعي على الإطلاق، لكنَّ السلطة تعتقد أنَّ هذه الاستراتيجية ناجحة؛ لذلك ترى أنَّ عليها الاستمرار في الضغط على حماس، وستحصل على أكثر حتى من المتفق عليه".

وترى الصحيفة أنه كلما طال الحصار، نزف تمويل حماس واقتصاد غزة. وفي حين أُجبر الآلاف من العاملين بالسلطة الفلسطينية في غزة -مثل أبو شعبان- على التقاعد المبكر، وفي حين وجد من قرَّر البقاء في وظيفته أنَّ أجره انخفض بنسبة 40%، فإنَّ قرابة 40 ألف عامل في حماس (كثير منهم من ضباط الشرطة) لم يتلقوا أجورهم شهوراً.

ومع تراجُع القدرة الشرائية في غزة، انخفضت الواردات التي تمر بمعبر كرم أبو سالم -من معدل شهري بلغ 9720 شاحنة في العام الماضي، إلى 7855 شاحنة فقط في يناير/كانون الثاني، الأمر الذي سيؤدي فقط إلى خفض إيرادات حماس أكثر.

وقال فوزي برهوم، المتحدث باسم حركة حماس بقطاع غزة، في مقابلة تلفزيونية مشيراً إلى محمود عباس بكنيته: "أنزل أبو مازن عقابه علينا جميعاً، ليس على حماس فقط".

وجهة نظر متضاربة في إسرائيل


وتشير الصحيفة الأميركية الى نقاش، قالت إنه اندلع في إسرائيل الأسبوع الماضي، يرى احتمال اندلاع حرب في الشمال والجنوب، بين قادة عسكريين يحذرون من الأزمة التي تلوح في الأفق بغزة، وسياسيين يتساءلون إلى أي درجة، ومتى بالتحديد، سيهدد الوضع هناك الأمن القومي.

وقال المحللون إنَّ السياسة الإسرائيلية عانت هذا التضارب في الرأي منذ فرض الحصار، حين سعت البلاد لحماية نفسها بتطويق قطاع غزة.

لكن هذا كان يعني الحفاظ على درجة هائلة من السيطرة على تدفق الناس، والبضائع، والطاقة، والمساعدات الدولية عبر الحدود. وكلما اشتد الخناق على غزة، زادت احتمالية أن ترتد آثار الضرر الاجتماعي هناك في وجه إسرائيل.

ولا يوجد مثال أوضح على ذلك من الجانب الإسرائيلي من الحدود، حيث يقوم الجنود بدوريات قريبة كفاية لرؤية مقاتلي "حماس" الذين يراقبونهم من الأبراج، ويتحدث القادة عن معدلات البطالة والفقر في غزة بطلاقةٍ ومعرفةٍ كما لو أنَّهم يتحدثون عن استعدادتهم العسكرية.

وتقول "نيويورك تايمز": "أرانا الجنرال يهودا فوكس، قائد فرقة الجيش الإسرائيلي في غزة، مؤخراً، أنَّ أنفاق حماس والجهاد الإسلامي اكتُشفَت ودُمرَت في الأشهر القليلة الماضية".

وأوضح أنَّ الأنفاق كانت مُزوَدة بالهواء والكهرباء والماء، وحفرها نحو 100 رجل يعملون في مناوبات.

إلا أن أعجوبة الجولة لم تكن الأنفاق؛ بل بناء حاجز خرساني وكهربائي في عمق الأرض، يقول الجنرال فوكس إنَّه سيكشف أنفاقاً أخرى ويمنع بناء المزيد منها.

اكتمل بناء نحو 5 كيلومترات من الحاجز، ويتبقى نحو 60 أخرى.

وترى الصحيفة أن الحاجز مثالٌ رائع على الإبداع، لكنَّ تكلفته باهظة؛ إذ أُقيمت 5 مصانع خرسانة لإمداد 20 موقع حفر بتكلفة تصل إلى مليار دولار. وقال الجنرال إنَّ الخرسانة التي تُصَب في رمال الصحراء تكفي "لبناء مانهاتن".

لكنَّه اعترف أيضاً بأنَّ مشروع الحاجز زاد الضغط على حماس ودفعها لاستخدام الأنفاق الحالية بسرعة، أو المخاطرة بفقدانها إلى الأبد، ما يزيد الأخطار التي تُشكِّلها الحركة على إسرائيل.

ومع احتضار عملية المصالحة، يقول الجنرال فوكس إنَّ حركة حماس والسلطة الفلسطينية حاولتا إبقاءها على قيد الحياة؛ لأنه "لا أحد يريد أن يتحمل مسؤولية إفشالها". وإن فشلت، فمن المرجح أن تُوجِّه حماس غضب سكان غزة باتجاهٍ آخر: "سيقولون إنَّ إسرائيل هي المشكلة. فلنذهب إلى الجهاد ونبدأ الحرب".

مراقبة الحاجز


وقد دعت إسرائيل مؤخراً البلدان المانحة لتمويل إصلاحات المياه والطاقة في غزة بنحو مليار دولار، وهي إجراءات تستغرق وقتاً طويلاً. لكن بإمكانها فعل المزيد لتخفيف الأزمة بسرعة، وفقاً لما ذكرته مجموعة "جيشاه-مسلك" الحقوقية، مثل فتح الطريق أمام مرضى السرطان للسفر من أجل تلقي العلاج، أو تجديد تصاريح الخروج للتجار التي خفضتها إسرائيل إلى 551 تصريحاً فقط في نهاية 2017 من نحو 3600 قبل عامين.

فعلت الولايات المتحدة عكس ذلك باستقطاعها 65 مليون دولار من وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين، التي تدعم اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بما في ذلك نحو 1.2 مليون في غزة، ويعتمد كثيرٌ منهم على المنح المعتادة من الدقيق والزيت وغيرها من المواد الغذائية الأساسية.

ولدى "حماس" نفسها عدة طرق للتخفيف من حدة الأزمة، وفقاً لما ذكره ثرول وغيره من الخبراء في شؤون غزة.

إذ يمكن أن تستعيد السيطرة على كرم أبو سالم، وتستعيد العائدات الحيوية، لكنَّ ذلك سيؤدي إلى تحميلها اللوم والمسؤولية عن إفشال المصالحة.

يمكن كذلك أن تسعى إلى تدخُّل محمد دحلان، وهو زعيم فتحاوي نفاه الرئيس عباس الذي يبغضه، على أمل أن يصب راعي دحلان، الإمارات، أمواله في غزة.

في الوقت الحالي، يحاول أولئك الذين يملكون أموالاً في غزة مساعدة من لا يملكون. وأسقط عددٌ قليل من التجار ديون عملائهم. وكانت غرفة التجارة في غزة قد دفعت 35 ألف دولار للإفراج مؤقتاً عن 107 تجار غارمين. وتبرع كذلك شخصٌ بـ1000 لتر من الوقود لمستشفى لتشغيل مُولِّداته.

لكنَّ الوقود نفد بسرعة. فالمساعدات الرمزية لها حدود، وسكان غزة يعتقدون حتماً أنَّ الحرب قادمة.

يقول ثرول إنَّ حماس لا يخالجها أي وهم بأنَّها ستصمد في المعركة المقبلة أطول مما صمدت بعد معركتها مع إسرائيل عام 2014.

ويضيف: "ترى (حماس) عزلتها في المنطقة، وعزلة الفلسطينيين بصورة أوسع. سابقاً، في الحروب، كان من الممكن أن يأملوا إشعال الشارع العربي والضغط على الزعماء العرب. أما في عام 2014، فبالكاد سُمعَت همسات، والوضع الآن أصعب".

ومع ذلك، بدأ الفلسطينيون، سواء كانوا في السلطة أو خارجها، يتحدثون صراحة، إما بدافع التهديد وإما بدافع اليأس، عن مواجهة حصار إسرائيل بتحركٍ جماعي يمكن أن يتسبب بسهولة في وقوع ضحايا وتصعيد الموقف.

يروج الناشط على الشبكات الاجتماعية أحمد أبو رتيمة، لفكرة "العودة الكبرى"، وهي مسيرة سلام تضم 100 ألف متظاهر على طول الحدود بين إسرائيل وغزة. وتوقَّع برهوم، المتحدث الرسمي باسم حركة حماس، مشاركة مليون أو أكثر من سكان غزة، وإن لم يكن بالضرورة سلمياً.

وقال أبو شعبان، المتقاعد من العمل في السلطة الفلسطينية والذي يمر بضائقة مالية، إن "انفجاراً قادماً" لا محالة. وأضاف: "ليس لدينا غير إسرائيل لننفجر فيها. هل ينفجر بعضنا في وجه بعض؟"

تحميل المزيد